Tertulliani Liber Apologeticus


ترتلّيانوس

دفاع عن التّوحيد

فهرس

الموضوع

مقدّمة المترجم

1- الفصول 1-10

2- الفصول 11-22

3- الفصول 23-37

4- الفصول 38-50

حواش


 

تر تلّيانوس: المنافحة

( أو دفاع عن التّوحيد)

 

مقدّمة المترجم

 

يعَدّ الإفريقيّ كوِنتوس سبتيموس فلورنس ترتلّيانوس مؤسّس الأدب النّصرانيّ اللاّتينيّ وأحد أفضل النّاثرين وُلد حوالي 160 م بقرطاج في أسرة وثنيّة. بعد دراسته اشتغل بالمحاماة في رومية ثمّ عاد إلى قرطاج في 195 وكتب خطابه هذا دفاعا عن النّصارى في 197، فكان أوّل من كتب في هذا النّوع باللاّتينيّة إذ كتب سابقوه كأرستيدس ويستينوس وأثيناغوراس وأوريجينس أو تاتيانس باليونانيّة. عُرف بتشدّده مثلا في موقفه من المسرح والفنون والحجاب وزواج الأرامل والصّوم وقدرة القسّ على غفران الذّنب باسم المسيح، ممّا جعله ينضمّ لاحقا إلى فرقة المُنتانيّين ثمّ ينشقّ عنها مؤسّسا فرقة بدّعتها الكنيسة الكاثوليكيّة. ومن المفارقات أنّه أوّل من قدّم أساسا نظريّا لسلطة الكنيسة في تأويل الكتاب المقدّس والتّبديع. توفّي 220-225 م. وقد رأينا ترجمة المنافحة لأسباب منها:

1- قيمتها بالنّسبة لدراسة التّاريخ الدّينيّ والاجتماعيّ لإفريقية والامبراطوريّة الرّومانيّة.

2- قيمتها الأدبيّة، فترتلّيانوس معلَم بارز يندرج ضمن عدّة كتّاب أفارقة لعبوا دورا هامّا في الدّفاع عن النّصرانيّة كفيلكس معاصره وأرنوبيوس وكبريانوس وأغسطينوس لاحقا. وهو ينفرد بينهم بحدّة وقوّة ردّه، فحماسه يختلف مثلا عن دفاع فليكس المصوغ في شكل حوار مهذّب، وحججه تختلف عن الّتي نجدها في منافحة أثيناغوراس مثلا في قوّة صياغتها أكثر ممّا تختلف في المضمون، وبعكس أوريجينس مثلا يرفض الحضارة اليونانيّة الرّومانيّة وإرثها الثّقافيّ جملة وتفصيلا مع سعة إلمامه بهما ويشبه في ذلك تاتيانوس، وهو في أسلوبه يعتمد على وقع صيغه الخطابيّة وتعابيره المفاجئة أكثر من قوّة المنطق.

3- أنّ المسلمين في إطار الحوار مع النّصرانيّة بحاجة إلى معرفة المزيد عنها وعن تاريخها وأدبيّاتها، والدّيانتان رغم اختلافهما العقائدي خرجتا من مشكاة واحدة وترفعان قيما متشابهة أو متقاربة.

4- أنّ الاضطهاد الّذي عانى منه النّصارى في الامبراطوريّة الرّومانيّة طيلة 3 قرون، لكن بصفة غير منتظمة، يشبه في مبرّراته ( الإجرام، عدم الاندماج، عدم الجدوى الاقتصاديّة، رفض قيم المجتمع الرّومانيّ) إلى حدّ ما اضطهاد المسلمين اليوم في ظلّ النّظام العالميّ الجديد.

5- أنّ في الأدب العربيّ رافدا نصرانيّا مهمّا منذ الجاهليّة حتّى إن كان جلّ شعر الجاهليّين النّصرانيّ منحولا.

يتوجّه ترتلّيانوس في منافحته إلى ولاة الأقاليم الرّومانيّة فيدعوهم إلى إعادة النّظر في قضيّة النّصارى نافيا وجود أساس قانونيّ لاضطهادهم. ثمّ يردّ على التّهم الموجّهة إليهم، سواء الفرى عن ممارسات خفيّة كالضّحايا البشريّة وزنا المحارم، أو امتناعهم جهرا عن المشاركة في عبادة الآلهة الوثنيّة والامبراطور، منتقدا بعنف دين الرّومان ومؤكّدا ولاء النّصارى للامبراطوريّة واندماجهم في نسيجها الاقتصاديّ والاجتماعيّ. أخيرا يؤكّد اختلاف النّصرانيّة عن الفرق الفلسفيّة ومصدرها الإلهيّ مشيدا بروح التّضحية عندهم ومندّدا بغوغائيّة السّاسة. من كلماته الشّهيرة: "النّفس بالفطرة على دين التّوحيد"، "بذر هو دم النّصارى"، "النّاس لا يولدون، بل يصيرون نصارى"، "انظر كيف يحبّ بعضهم بعضا".

وقد وضعنا بين قوسين المقاطع الّتي لم ترد في كلّ النّسخ، وعلامة * على بعض الأسماء والمقاطع الّتي علّقنا عليها في آخر الكتاب، كما ألحقنا ملخّصا لمنافحته لتمكين القارئ من متابعة تسلسلها. ونرجو أن نكون وُفّقنا في التّرجمة والله وليّ التّوفيق. عمّار الجلاصي، 3/3/2001



 

 

دفاع عن التّوحيد

1 الدّعوة إلى إعادة النّظر في قضيّة النّصارى

إن لم يسعْكم يا ولاة الامبراطوريّة الرّومانيّة النّظر علانية من علاء منزلتكم المرموقة على رأس الدّولة في قضيّة النّصارى والتّحقيق حولها أمام الجميع، إن كانت سلطتكم توْجل أو تخْجل من التّحرّي علنا وبتبصّر العدالة حول هذه القضيّة دون سواها، أخيرا وكما تمّ مؤخّرا إن كمّم اضطهاد هذه الملّة المشطّ فم الدّفاع في بعض المحاكمات المحلّيّة*، فاسمحوا على الأقلّ بأن تصل الحقيقة إلى مسامعكم من خلال رسالة خرساء لا ترافقها أيّة ضجّة. ليس لها ما ترتجي بخصوص قضيّتها فهي لا تعجَب من وضعها وتعلم أنّها تسير كغريبة في الدّنيا* ولا غرو أن تجد بين الغرباء أعداء، لكنّ لها في السّماوات أهلها ووطنها ورجاءها وحظوتها ومجدها؛ في انتظار ذلك لها رغبة واحدة: ألاّ تدان جهلا. فأيّ ضير على القوانين، ولها السّلطان المطلق في مجالها، من الاستماع إليها؟ أيزداد سلطانها حين تدين الحقيقة بدون سماعها؟ وإلاّ إن تدنها بدون سماعها فإذّاك ستستحقّ فضلا عن طابع الجور البغيض أن يُرتاب في تحيّزها لرفضها سماع ما لا تستطيع إدانته لو سمعته. نضع إذن نصب أعينكم هذا السّبب الأوّل لما في الكراهية تجاه اسم النّصارى من ظلم. والذّريعة نفسها، الّتي تبدو تبريرا لهذا الظّلم، وهي الجهل طبعا، تضاعفه وتدحضه؛ وهل أظلم من أن يكره النّاس ما يجهلون، حتّى لو استحقّ الكراهية فعلا؟ فإنّما تحقّ الكراهية متى عُلم أنّها تحقّ. أمّا في غياب العلم باستحقاقها، فبم يُستدلّ على عدل الكراهية الّذي يجب إثباته لا من الأمر الواقع، بل بالاقتناع الباطن؟ فعلا، إن كره النّاس لجهلهم بحقيقة ما يكرهون، ألا يمكن أن يكون ما يكرهون بهذا النّحو تحديدا ما يجب ألاّ يكرهوا؟ هكذا نبيّن بطلان كلا الموقفين انطلاقا من الآخر: أنّهم يجهلون في كرههم، ويكرهون ظلما في جهلهم. دليل جهلهم الّذي وإن فسّر ظلمهم يدينه أنّ كلّ من كانوا يكرهون سابقا لجهلهم بحقيقة ما يكرهون يكفّون عن كرههم فور زوال جهلهم؛ فهم يتحوّلون إلى نصارى عن اقتناع، ويكرهون مذّاك ما كانوا قبل تحوّلهم إليها، ويجاهرون بما كانوا يكرهون؛ وإنّهم ليدخلون في هذا الدّين بالأعداد الّتي يشيعها غيرهم. تتعالى الأصوات بأنّهم اندسّوا في المدينة، بأنّ النّصارى في الحقول والقرى المحصّنة والجزر، وترتفع الشّكاوى من دخول النّاس في هذا الدّين أفواجا من كلّ جنس وعمر وفئة بل وكلّ منزلة، كما لو كان ذلك ضررا فادحا. لكن لا يخطر ببالهم افتراض خير خفيّ فيه، لا يمكنهم تصوّره بنحو أقوم ولا يعجبهم تجريبه عن كثب. هنا فقط يثّاقل فضولهم الإنسانيّ؛ يحبّذون الجهل بينما يسعد غيرهم بالمعرفة؛ ولكم كان أناخرسيس* سيشنّع أكثر على هؤلاء الجاهلين الّذين يحكمون على العارفين، < كمن ينتقدون أهل الفنّ وهم يجهلونه>. يؤثرون الجهل، لكراهيتهم المسبقة؛ هكذا يحكمون مسبقا على ما يجهلون بأنّه بالصّورة الّتي يظنّون، ولو عرفوه لما أمكن أن يكرهوه، بينما الأوْلى بلا شكّ إن لم يُكتشف مسوّغ للكراهية، الكفّ فورا عن كراهية لا موجب لها. وإن اتّضح أنّ لها مبرّرا فلا داعي إذّاك لتخفيفها، بل فوق ذلك، يدعو شرف العدل نفسه إلى الاستمرار عليها. لكن قد يقال: "ليس أمر ما خيرا لمجرّد اجتذابه كثيرين: فكم من النّاس يغويهم الشّرّ < وكم منهم يستهويهم الضّلال! من ينكر ذلك؟> لكنّ ما هو شرّ حقّا لا يجرؤ المنجرّون إليه على الدّفاع عنه كخير. فقد ألقت الطّبيعة على كلّ شرّ ستارا من الخوف أو الخجل. لذا يرغب الأشرار في الاختفاء، ويتجنّبون الظّهور، ويضطربون إذا قُبض عليهم، وينكرون ما يُتّهمون به، وحتّى تحت التّعذيب لا يقرّون بسهولة ولا في كلّ الأحوال، ويأسفون بالتّأكيد عند إدانتهم: يقرّون في خفايا سرائرهم بأنّهم دُفعوا بشرّ أنفسهم ويعزون للقدر والبروج خطاياهم ولا يريدون الإقرار بأنّ ما يعلمونه شرّا هو من عند أنفسهم. فهل من شبه للنّصرانيّ بذلك؟ لا أحد يخجل أو يندم على شيء سوى أنّه لم يكن كذلك في وقت أبكر؛ إن أشير إليه افتخر وإن اتُّهم ما أنكر وإن استُجوب، بل ومن تلقاء نفسه، أقرّ وإن أدين شكر. فأيّ شرّ هذا الّذي لا يقترن بسمات الشّرّ المعتادة، من خوف وخجل وتنصّل وندم وحسرة؟ ماذا؟ أشرّ هذا الّذي يسعد المتّهم به؟ الّذي تهمته مُنية وعقابه نعمة؟ لا يجوز أن تصِم بالجنون ما ثبت أنّك تجهله.

2 انتفاء الأسس القانونيّة للأحكام الصّادرة ضدّهم

ثمّ إن ثبت لديكم أنّنا شرّ المجرمين فلِم تعاملوننا بخلاف ما تعاملون أمثالنا، أعني المجرمين الآخرين، بينما يُفترض أن تلقى نفس الجريمة نفس المعاملة. إذا اتُّهم الآخرون بما نُتّهم به، يمكنهم، بأنفسهم أو بتوكيل غيرهم، إثبات براءتهم، يُمنحون حقّ الرّدّ ليجادلوا عن أنفسهم، إذ لا يجوز إطلاقا أن يدان متّهمون دون الدّفاع عنهم وسماع أقوالهم. النّصارى وحدهم يُمنعون كلّيّا من قول ما يبرّئهم ويعلي الحقّ ويقي القاضيَ مزلّة الظّلم، يُنتظر منهم فقط ما يكفل تأجيج الحقد العامّ: الاعتراف بالاسم لا إيضاح الجرم.

والحال أنّكم، إن خُبّرتم عن مجرم ما لا يكفيكم اعترافه بالجرم، قتلا كان أو تعدّيا على الحرمات أو زنا بالمحارم أو خيانة للوطن لأقتصرَ على ما يُنسب إلينا- لإصدار الحكم، بل تفحصون الملابسات وطبيعة الفعل والعدد والزّمان والكيف والمكان والشّهود والشّركاء. أمّا عنّا، فلا شيء من هذا، بل المطلوب انتزاع اعترافنا بما يشاع عنّا باطلا: كم من ذبائح الأطفال ذاق كلّ منّا، وكم من جرائم الزّنا بالمحارم ارتكب تحت جنح الظّلام، وهل شهد جرمه طهاة أو كلاب؛ ولعمري أيّ مجد لحاكم يفضح واحدا منّا التهم مائة طفل! بل نجد التّحقيق ممنوعا أصلا في حالتنا؛ فعلا لمّا كان بلينيوس سيكندوس* يحكم إقليما، بعد إعدام عدد من النّصارى وتجريد آخرين من مراتبهم، استشار وقد أعيته الحيلة بشأن كثرتهم ترايانوس* الامبراطور يومذاك عمّا يفعل معهم والحال تلك، شارحا له أنّه فيما عدا إصرارهم على رفض تقديم القرابين، لم يجد بشأن عباداتهم سوى اجتماعاتهم في الأسحار لترتيل أناشيد تمجّد المسيح كإله والتزامهم الجماعيّ بنظام يحرّم قتل النّفس والزّنا وإيذاء الغير والخيانة وكلّ المنكرات. إذّاك ردّ ترايانوس* ينهاه قطعيّا عن تتبّع جماعتهم ويأمره في نفس الوقت إن أُحضروا إليه بمعاقبتهم*. فيا له من حكم شوّشته ضرورة غريبة: ينهى عن متابعتهم باعتبارهم غير مذنبين ويأمر بمعاقبتهم بصفتهم مجرمين. يتسامح ويشطّ في العقاب، يتغاضى ويحذّر! لِم تعرّض نفسك للمحاسبة؟ إن تُدن فلِم لا تحقّق في نفس الوقت؟ إن ترفض التّقصّي، فلم لا تغفر كذلك؟ هناك لملاحقة اللّصوص كتيبة معيّنة بالقرعة في كلّ إقليم، وكلّ فرد مجنّد لتتبّع الأعداء العموميّين والخونة، بل يطال التّحقيق شركاءهم والشّهود المتستّرين عليهم. عن النّصرانيّ وحده لا يجوز التّحقيق، لكن يجوز تقديمه للقضاء كما لو جُعل التّحقيق لهدف آخر سوى تقديم المشتبه فيهم للمحاكمة. هكذا تدينون من أحيل إليكم ولم يطلبه أحد للعدالة، وهو كما يبدو لي لم يستحقّ العقاب لأنّه مجرم بل لأنّه قُبض عليه دون أن يكون مطلوبا للعدالة. لكنّكم تتصرّفون إزاءنا خلافا للإجراءات القضائيّة في هذا أيضا: أنّكم تستخدمون التّعذيب مع الآخرين ليقرّوا بما ينكرون، ومع النّصارى وحدهم لينكروا، بينما المفروض، إن وُجد جرم، أن ننكر وتكرهونا بالتّعذيب على الإقرار. ولا ترون من داع للتّحقيق حول الجرائم بالاستجواب، بدعوى اقتناعكم، من مجرّد الاسم، أنّهم ارتكبوها، بينما لا تألون جهدا في حالة اعتراف قاتل بجرمه، ومع علمكم بطبيعة الجريمة، حتّى تنتزعوا منه تفاصيلها بالتّرتيب. والأدهى أنّكم وإن نسبتم لنا تلك الجرائم من مجرّد إقرارنا بالاسم، تحاولون ردّنا عنه بالتّعذيب حتّى ننفي بإنكار الاسم الجرائم المنسوبة إلينا بناء على اعترافنا به. لكن لا إخالكم تريدون أن نهلك مع ظنّكم بأنّا شرّ النّاس، فقد اعتدتم أن تقولوا للقاتل: "أنكرْ" وتأمروا بتقطيع أوصال منتهك الحرمات إن تمسّك بالإقرار؛ إن لم تعاملونا نفس المعاملة، فذلك أنّكم تقرّون ضمنيّا ببراءتنا إذ لا تريدون أن نتمسّك نحن الأبرياء بديننا وأنتم تعلمون أنّكم تنزلون عليه العقاب لا بمقتضى العدل بل لضرورات السّياسة*. يعترف الواحد منّا: "أنا نصرانيّ"؛ يعلن عمّا هو، وتريد أن تسمع منه ما ليس هو؛ أنتم الموكول إليكم إظهار الحقيقة تجتهدون لسماع الكذب منّا نحن فقط؛ يقول: "أقرّ بأنّي كما سألتَ، فلِم تلوي أطرافي خلافا لكلّ الأعراف؟ أعترف وتعذّبني: ماذا ستفعل إذن لو أنكرتُ؟" لمّا ينفي الآخرون بإصرار لا تصدّقونهم بسهولة، أمّا نحن فحالما ننكر تصدّقوننا. هذا الانحراف حريّ بأن يريبكم بوجود قوّة تعمل في الخفاء تدفعكم إلى التّصرّف بما يخالف الأصول، وطبيعة الحكم، بل والقوانين نفسها: فهي، إن لم أخطئ التّقدير، تأمر بالكشف عن المجرمين لا بإخفائهم، وتدعو إلى إدانة المعترفين بالجريمة لا الصّفح عنهم. ذاك ما توضّحه توصيات مجلس الشّيوخ*، ومراسيم الأباطرة؛ هذه الدّولة الّتي أنتم خدّامها سلطة مدنيّة لا استبداديّة. عند الطّغاة يسلّط التّعذيب فعلا كعقاب، أمّا عندكم فيخفَّف إلى وسيلة استنطاق فقط. فالتزموا بالقانون الّذي يقرّ التّعذيب حتّى حصول الاعتراف، وإن استُبق بالإقرار فلا داعي له، بل يجب إذّاك إفساح المجال لإصدار الحكم، ولا بدّ عندئذ من توقيع العقاب على الجاني كما يستحقّ لا إعفاؤه منه. إذ لا أحد يرغب في العفو عنه ولا يجوز أن يريد أحد ذلك؛ لذا لا يُكره أحد على الإنكار؛ تتّهم النّصرانيّ بكلّ الجرائم، بأنّه عدوّ الآلهة، والأباطرة، والقوانين، والأعراف، والطّبيعة بكاملها، وتكرهه على الإنكار لتغفر له ما لا تستطيع غفرانه له إن لم ينكر. أنت تتلاعب بالقوانين: تريد إذن أن ينكر ذنبه لتبرّئه، وتزيل بدون رضاه كلّ شبهة تتعلّق بماضيه؛ من أين أتى هذا الانحراف، ألاّ تعتبروه في اعترافه التّلقائيّ أجدر بالتّصديق ممّا هو في إنكاره القسريّ؟ أليس المجبر على الإنكار مرائيا في إنكاره ولا يلبث بعد عفو المحكمة رأسا أن يرتدّ نصرانيّا ضاحكا على عدائكم. وعليه ما دمتم تتّخذون إزاءنا في كلّ شيء إجراءات تخالف ما تعاملون به المجرمين الآخرين جاعلين كلّ همّكم تجريدنا من اسمنا، وسنتجرّد منه فعلا لو صنعنا ما يصنع غيرنا، يمكن أن تدركوا أنّ القضيّة لا تتعلّق هنا بجرم بل باسم تلاحقه باضطهادها قوّة مؤثّرة حاقدة هدفها أن يرفض النّاس أن يعلموا يقينا ما يعلمون يقينا أنّهم يجهلون. لذا يظنّون بنا أمورا لم تثبت أبدا، ويرفضون تقصّي الحقيقة مخافة أن يتبيّن بطلان ما آثروا تصديقه ليُدينوا ذلك الاسم الّذي تبغضه تلك القوّة المناوئة بناء على جرائم مفترضة غير مثبتة من مجرّد الإقرار به؛ نعذََّب إن أقررنا ونعاقَب إن أصررنا ويُصفح عنّا إن أنكرنا فإنّما على الاسم شُنّت الحرب. في نهاية الأمر لِم تدعون الواحد منّا بناء على لائحتكم بصفته نصرانيّا؟ لم لا تدعونه كذلك بصفته قاتلا؟ أو زانيا بالمحارم أو غير ذلك ممّا تظنّون بنا؟ بشأننا نحن فقط تُخجل أو تزعج تسمية الجرائم ذاتها عند الحكم. إن لم يكن اسم النّصرانيّ اسم أيّ جرم محدّد فمن الخطل حقّا أن ينحصر الجرم في اسمه.

3- تعود تلك الأحكام إلى كراهيتهم بناء على أفكار مسبقة

ماذا؟ يبلغ بجلّ النّاس بغضهم الأعمى لهذا الاسم أنّهم حتّى وهم يدلون بشهادة لأحد بالخير، يشوبونها بالطّعن في اسمنا؛ يقول هذا: "أكرمْ بقيّوس سيّوس رجلا فاضلا، إلاّ أنّه مسيحيّ"؛ ويقول ذاك: "أكبرْ بلوقيوس تيتيوس رجلا حكيما لولا تحوّله فجأة إلى المسيحيّة"؛ ولا يتبادر لذهن أحد أنّ قيّوس فاضل ولوقيوس حكيم بالتّحديد لأنّه مسيحيّ، أو هو مسيحيّ بالتّحديد لأنّه حكيم وفاضل. يمدحون ما يعلمون ويشتمون ما يجهلون ويحاربون ما يعلمون بسبب ما يجهلون، والحال أنّ توسّم الخفيّ من الجليّ أحقّ من إدانة الجليّ مسبقا بناء على الخفيّ. وآخرون يستقبحون في من عرفوهم في الماضي قبل حمل هذا الاسم لئاما متقلّبين أخسّة ما يمدحون؛ "أيّة امرأة عابثة لعوب! وأيّ فتى لاه طروب! صارا نصارى"؛ هكذا أُعطي هذا الاسم عنوانا لعمليّة إصلاحهما. كثيرون أيضا من قايضوا مصالحهم وراحتهم بهذه الكراهية راضين بالأذى ما دام لا يوجد ببيتهم ما يكرهون؛ الزّوجة بعدما صارت عفيفة طلّقها زوجها الّذي لم يعد هناك ما يدعوه إلى الغيرة، والابن بعدما غدا برّا مطيعا حرمه من الميراث أبوه الّذي كان أمس صبورا، والعبد الّذي بات أمينا أبعده عن ناظريه سيّده الّذي كان أمس غفورا؛ كلّما أُصلح أحد بهذا الدّين سيء مَن حوله بصلاحه: فلا صلاح يوازن بغض النّصارى! إن بلغ بغض الاسم هذا المدى، فما ذنب الأسماء يا ترى؟ وبم تتّهم ألفاظ، إلاّ إن كان في لفظ الاسم ما يوحي بالهمجيّة أو الشّؤم أو السّوء أو الفحش؟ والحال أنّ اسم المسيحيّين مشتقّ من معنى المسح والادّهان*. ورغم أنّكم تنطقونه خطأ*، فما لكم حتّى باسمنا معرفة ثابتة، هو من الرّفق والسّماحة؛ لذا أنتم تكرهون في أناس أبرياء حتّى اسمهم البريء. لكنّ الملّة تُكره أساسا في اسم صاحبها. أيّة غرابة في أن تشتقّ شيعة من اسم مؤسّسها كنية لأتباعها؟ ألا يُدعى الفلاسفة بناء على أسماء مؤسّسي مذاهبهم أفلاطونيّين* وأبيقوريّين* وفيثاغوريّين*؟ أو نسبة إلى أماكن اجتماعاتهم ومجالسهم رواقيّين* وأكاديميّين*؟ أولا يشتقّ كذلك الأطبّاء اسمهم من إرسسْتراتوس* والنّحاة من أرسطراخوس* والطّهاة من أبيقيوس*؟ مع ذلك لا يسيء إلى أحد أن يجهر باسمه مع المذهب المنقول عن مؤسّسه؛ لا محالة إن أثبت أحد أنّ المعلّم سيّء والفرقة سيّئة، فقد أثبت كذلك أنّ الاسم سيّء وجدير بالكراهية انطلاقا من تجريم المؤسّس والأتباع؛ وقبل ذلك كان كره الاسم يقتضي تعرّف الملّة من مؤسّسها أو المؤسّس من ملّته. لكن هنا يُعمد دون اهتمام بالتّحقيق عنهما ودون التّعرّف عليهما إلى التّشهير بالاسم ومحاربته بلا هوادة؛ بكلمة واحدة تُدينون مسبقا ملّة تجهلونها ومعلّما تجهلونه لأنّهما يحملان اسما معيّنا، لا لثبوت جريمة عليهما.

4- رفض ترخيص المسيحيّة ظلم صارخ

بعد هذه التّوطئة الّتي أردت التّنديد فيها بالظّلم الّذي يتضمّنه بغض الجمهور لنا، سأوجّه الآن مرافعتي إلى إثبات براءتنا، ولن أقتصر على تفنيد المطاعن المأخوذة علينا، بل سأردّها كذلك على ثالبينا ليعلم النّاس من ذلك أيضا أنّ النّصارى برءاء ممّا لا يجهلون وجوده فيهم هم بالأحرى، ويخجل في نفس الوقت من يتّهموننا، لا أقول اتّهام أشرار للأخيار، بل إن شاؤوا اتّهام بشر لبشر مثلهم. سنجيب بالتّفصيل على ما نتّهم به من جرائم شتّى يدّعون أنّنا نرتكبها سرّا بينما وجدناهم يرتكبونها جهرا، ويُنظر إلينا على أساسها كمجرمين وسخفاء أهل للعقاب والاستهزاء. لكن ما دمتم في نهاية الأمر، إن استوفت حقيقتنا كلّ الشّروط، تشهرون ضدّها سلطة القوانين زاعمين أنّه لا يجب اعتبار أيّ شيء بعدها وأنّ واجب الطّاعة ولو كرها مقدَّم على الحقيقة، سأبدأ بمحاجّتكم حول تلك القوانين بصفتكم حماتها. بدءا، لمّا تصرّحون بصرامة بموجب القانون: "وجودكم غير مرخّص"، وتأمرون بوضع حكمكم هذا موضع التّنفيذ بدون رجعة ولا رحمة، ترفعون من علاء سلطتكم شعار التّسلّط والجبروت، إن رفضتم ترخيص وجودنا لأنّ تلك مشيئتكم، لا لأنّ القانون قضى بحظره. إن كنتم ترفضون ترخيصه لأنّه لا يجب أن يرخَّص، فقطعا لا يجب أن يُسمح بما فيه الشّرّ ومن ثمّة يُحكم يقينا بترخيص ما فيه الخير؛ إن وجدتُ ما حظر قانونك صالحا، أليس واضحا على أساس ذلك الحكم أنّه لا يستطيع أن يحظر عليّ ما يحظر بصفة مشروعة إن كان فيه شرّ؟ إن أخطأ قانونك فذاك في اعتقادي لأنّه من وضع الإنسان فهو لم يُنزَّل من السّماء. أعجبٌ أن أمكن لإنسان أن يخطئ بسنّ قانون أو أن يعود إلى الحقّ بجبّه؟ ألم يعدّل اللّخدمونيّون* قوانين ليكرغوس* نفسه، مسبّبين بذلك لصاحبها من الألم ما دفعه إلى إماتة نفسه جوعا بمنأى عن النّاس؟ أوَلستم أنتم أنفسكم، بفضل التّجارب الّتي تنير ظلمات الأزمنة القديمة تقصّون وتقطّعون كلّ يوم في غابة القوانين البالية بفؤوس المراسيم والقرارات الامبراطوريّة الجديدة؟ ألم يلغ بالأمس سويروس* الّذي لايضاهي حزمه أحد بين الأباطرة القوانين البابيّة* النّخرة الّتي تجبر على تربية الأطفال قبل عقد القران وفق القانون اليوليويّ* بعدما هرمت تلك السّلطة؟ كذلك كانت توجد قوانين تبيح للدّائنين قطع المدينين إربا إن أدانهم القانون ثمّ ألغيت لاحقا هذه الوحشيّة بموافقة الجميع، وحُوّل عقاب الإعدام إلى وصمة خزي؛ وفي اللّجوء إلى بيع أملاك المدين بالمزاد تفضيل لتخضيب وجهه بدمه على إراقته*. كم يخفى عليكم من قوانين تحتاج إلى التّنقيح، فلا عمرها ولا شرف مشترعيها يمنحها صلاحيّتها بل عدالتها فقط! لذا لمّا يُتبيّن ظلمها تدان بصفة مشروعة، وإن كانت تدين. كيف نقول إنّها ظالمة؟ بل فوق ذلك، إن كانت تعاقب مجرّد اسم من حقّنا القول أيضا بأنّها خرقاء. فإن كانت تعاقب أفعالا، لِم تعاقب بناء على الاسم وحده أفعالا تثبتها لدى الآخرين بناء على الدّليل المادّيّ لا الاسم؟ أنا زان بالمحارم، فلِم لا يحقّقون في ذلك؟ أنا قاتل أطفال فلم لا ينتزعون منّي بالتّعذيب الإقرار بجرمي؟ قدحت في الذّات الامبراطوريّة أو جدّفت على الآلهة، فلم لا يُستمع إلى ما أدافع به عن نفسي؟ لا قانون يمنع بيان ما يحظره، فلا القاضي بمُنزِل عقابا عادلا إن لم يتحقّق من فعل المتّهم ما يمنعه القانون، ولا المواطن بممتثل للقوانين بالتزام إن كان يجهل ما الّذي تعاقب عليه. ولا قانونَ يستمدّ الاقتناع بعدالته من ذاته فقط، بل ممّن ينتظر امتثالهم له؛ وأيّ قانون مشبوه إن لم يقبل الفحص ومرجّحٌ فسادُه إن فُرض دون تعليل.

5- نبذة تاريخيّة عن موقف الأباطرة النّصارى مع الإشادة بالمتسامحين والتّنديد بالمتعنّتين

للبحث في مسألة مصدر القوانين الّتي تعنينا هنا، نشير إلى وجود مرسوم قديم يقضي بألاّ يقرّ الامبراطور أيّ إله ما لم يصادق عليه مجلس الشّيوخ*؛ يعلم مرقس إيميليوس* ذلك بخصوص إلهه ألبُرنوس*؛ وهذا يؤيّد ما نذهب إليه من أنّ الألوهة عندكم مسألة تابعة لنظر البشر؛ إن لم يرقْ إله للإنسان فلن يكون إلها؛ ها هو الإنسان إذن بات هو الّذي يُرجى رضاه على الإله. لذا نجد أنّ تيبريوس* الّذي في عهده دخل اسم المسيحيّين العالم، لمّا أحيط علما من بلاد سورية فلسطين بالأحداث الّتي جلَت صحّة ألوهته، أحال المسألة إلى مجلس الشّيوخ*، مدليا هو الأوّل بموافقته، فرفض مجلس الشّيوخ* لأنّه لم يتحقّق بنفسه؛ تمسّك قيصر بموقفه مهدّدا بالويل متّهمي النّصارى. ارجعوا إلى سجلاّتكم تجدوا فيها أنّ نيرون* أوّل من شهر السّيف الامبراطوريّ وبمنتهى الوحشيّة ضدّ هذه الملّة الّتي ظهرت آنذاك تحديدا في رومية؛ لكنّا نعتزّ بأن يكون مثله مفتتح اضطهادنا. إذ يمكن لكلّ من يعرفه إدراك أنّ لا شيء يدينه نيرون* إلاّ وفيه خير ما. حاول كذلك دومتيانوس*، وفيه شيء من وحشيّة نيرون* لكنّه احتفظ معها بشيء من الإنسانيّة، فما لبث أن ارتدع بسهولة عمّا شرع فيه، بل وأعاد كذلك من أمر بنفيهم. هكذا كان دوما مضطهدونا: بغاة عتاة كفرة فجرة، اعتدتم أنتم أنفسكم إدانتهم ودأبتم على ردّ الاعتبار لمن حكموا عليهم*. لكن ضمن كلّ الأباطرة العقلاء منذ ذاك العصر حتّى امبراطورنا الحاليّ الإنسانيّ والرّبّانيّ، اذكروا أيّ مضطهد للنّصارى. بينما نستطيع أن نذكر منهم حاميا لنا إن رجعتم إلى رسالة مرقس أورليوس* الامبراطور الرّزين الرّصين، حيث يشهد بانتهاء الجفاف الّذي ضرب جيش جرمانية* بغيث يعود فضل الحصول عليه إلى صلوات جنود نصارى؛ ولئن لم يرفع العقاب عنهم جهرة، فقد أبطل مفعوله بنحو آخر علنا، بل مضيفا عقاب متّهميهم وبكلّ صرامة. فأيّ قوانين هي تلك الّتي لا يسلّطها ضدّنا غير البغاة القساة الكفرة الفجرة المكرة الخبل؟ الّتي أبطلها جزئيّا ترايانوس* برفضه إجراء التّحقيق حولنا، والّتي لم يطبّقها أباطرة كهدريانوس*، مستكشف كلّ غريب، ولا فسبسيانوس*، مضطهد اليهود، ولا بيوس* او فيروس*. في كلّ الأحوال أرجحُ أن يحكم باستئصال الأشرار الأخيارُ أعداؤهم، من أن يفعل ذلك حلفاؤهم.

6- الرّدّ على المشهّرين بهم لتركهم سنن السّلف بأنّ الرّومان أنفسهم تخلّوا عنها

أودّ الآن أن يجيبني حماة قوانين ومؤسّسات الآباء الأمناءُ، الثّائرون لها من منتهكيها، عن مدى أمانتهم وامتثالهم لنواميس الألى، إن لم يحيدوا عن أيّ منها، إن لم يمرقوا على أيّ منها، إن لم يلغوا هذه الضّوابط الضّروريّة والمناسبة إلى أقصى درجة لأيّ منهج في الحياة. لماذا اختفت تلكم القوانين الّتي كانت تحدّ البذخ والمطامع؟ الّتي كانت تنهى عن إنفاق أكثر من مائة دانق على العشاء، وتقديم أكثر من دجاجة، وغير مسمّنة، والّتي رفتت من عضويّة مجلس الشّيوخ* أحد الأشراف لأنّه كان يملك عشرة أرطال من الفضّة باعتبارها علامة واضحة على مطامحه السّياسيّة، والّتي كانت تهدّ المسارح المشيدة لإفساد الأخلاق فور إنشائها، والّتي لم تكن تسمح باغتصاب شارات التّشريفات وكرم الأصل اعتباطا وبلا عقاب؟ اليوم أرى أنّه ينبغي أن يُطلق اسم مآدب المائة على تلك الّتي يُنفق فيها أكثر من مائة ألف درهم، ووأنّ الفضّة المستخرجة من المناجم تحوّل إلى أطباق لا فرق في ذلك بين أعضاء مجلس الشّيوخ والعبيد، حتّى من لم يزالوا تحت عفق السّياط؛ وأرى مسارح، لا مسرحا واحدا في الهواء الطّلق. فكيلا تفتر حتّى في الشّتاء تلك المتعة الخليعة ابتدع اللّخدمونيّون* قبل غيرهم تلك الكبابيد المقلنسة المقيتة لمشاهدة الألعاب؛ أرى كذلك أن لم يبق فرق يذكر في اللّباس بين السّيّدات والمومسات*. بخصوص النّساء اندثرت كذلك تشريعات الأجداد الّتي كانت تشجّع الاحتشام والاعتدال، أيّام كانت الواحدة منهنّ لا تعرف ذهبا سوى الخاتم الّذي نذرها به خطيبها قبل الزّواج، ويمتنعن عن الخمر حتّى أنّ ربّة بيت قتلها ذووها جوعا من قبل ذويها لفتحها مخزن النّبيذ، وأنّ متنيوس* قتل زوجته في عهد رومولوس* دون عقاب لأنّها مسّت الخمر. لذا كان عليهنّ أن يعرضن أفواههنّ لذويهنّ ليُعرف ذلك من أنفاسهنّ. أين اليوم تلك السّعادة الأسريّة الّتي أثمرتها أخلاق تلك الأيّام وبفضلها لم يسجّل أيّ بيت طلاقا طيلة حوالي ستّمائة سنة منذ إنشاء رومية؟ أمّا الآن فما من عضو بالمرأة إلاّ ومثقل بالذّهب، ولا فم إلاّ ويعبق بأبخرة الخمور، والطّلاق صار أمنية كما لو كان ثمرة الزّواج المرجوّة. أمّا التّشريعات الاحتياطيّة الّتي سنّها آباؤكم بشأن آلهتكم، فقد ألغيتموها يا أبرّ البنين: أزال القنصلان* بمصادقة مجلس الشّيوخ* الأب ليبر* مع طقوسه لا في رومية فقط بل في كلّ أرجاء إيطالية. وأبعد القنصلان بيسون* وغابينوس*، وما هما قطعا من النّصارى، سرابيس* وإيزيس* وهربقراطس* مع رفيقهم ذي رأس الكلب* من الكابتوليوم* ونبذاهم بذلك من مجمع الآلهة بعدما دمّرا هياكلهم أيضا للحدّ من مفاسد تلك الضّلالات المخزية وغير المجدية؛ لكنّكم أعدتموهم ورددتم لهم جلالهم بالكامل. فأين الاحترام وأين الإجلال الواجب للجدود؟ في الملبس والمأكل والتّربية والتّفكير، بل حتّى في اللّغة تخلّيتم عن سنّة السّلف؛ لا تكفّون عن الثّناء على الماضي وتتّبعون في حياتكم بدع العصر؛ يتّضح من كلّ ذلك أنّكم، بينما تتخلّون عن سنن السّلف الصّالحة، ترعون وتصونون تلك الّتي ما كان يجب حفظها وتفرّطون في الّتي كان يجب التّمسّك بها. حتّى أهمّ إرث لأسلافكم تودّون الظّهور كحفظته الأمناء وتتّهمون النّصارى خاصّة بانتهاكه، أعني التّفاني في عبادة الآلهة، وهو ما أخطأ السّلف بشأنه أشنع الخطإ، رغم إعادتكم بناء هياكل لسيرابيس* الّذي غدا رومانيّا، ورغم إلغائكم عربداتكم لباخوس* الّذي غدا طليانيّا، سأبيّن في محلّه أنّكم تزدرونه وتهملونه وتدمّرونه مستخفّين بسلطة الأجداد. وها أنا سأردّ الآن على تلك الشّائعة المغرضة عن جرائمنا السّرّيّة، لأفسح أمامي المجال للأمور العلنيّة.

7- تكذيب الإشاعات كزنا المحارم وتقديم الضّحايا البشريّة

يقال عنّا إنّنا أسوأ المجرمين نقتل في طقوسنا طفلا ونقتات به، وبعد الوليمة نزني بالمحارم بعدما تقلب الشّموع كلاب هي بمثابة وسطاء الظّلام لإخفاء فواحشنا المنكرة. ذاك ما يشاع عنّا باستمرار، وما لم تكلّفوا أنفسكم على طول المدى عناء كشفه للعيان؛ بيّنوه إن كنتم تصدّقون به أو لا تصدّقوه إن لم تبيّنوه؛ فمن تعتيمكم على الأمر يستدلّ مبدئيّا على أنّ لا وجود لما لا تجرؤون كشفه بأنفسكم؛ وبمهمّة مخالفة تماما تأمرون الجلاّد في حالة النّصارى: حملهم على إنكار هويّتهم لا الإقرار بأفعالهم. يعود تاريخ هذه الملّة كما أشرنا آنفا إلى عصر تيبريوس*؛ بدأت الحقيقة ومعها كراهيتها، عوديت منذ ظهورها؛ صار كلّ من لا ينتمون إليها أعداء لها: اليهود بالأخصّ غلاّ، والجند بغيا، وحتّى خدمنا كما هو طبيعيّ. يوميّا نهاجَم، يوميّا يُغدر بنا، مرارا وتكرارا نباغَت في اجتماعاتنا وندواتنا. فمن وجد أبدا بهذا النّحو طفلا يصرخ وهو يذبح؟ من احتفظ للقاضي بأفواه أولئك السّعالى والأغوال* كما وجدها ملطّخة بدم الضّحايا؟ من عثر على أثر لرجس في الزّوجات المسيحيّات؟ من اكتشف مثل تلك الجرائم البشعة فتستّر عليها أو بلّغ عنها جارّا أمام الحاكم الجناة؟ إن كنّا نتخفّى باستمرار فمتى كُشف ما نأتي من جرائم؟ بل ممّن أمكن أن يُكشف؟ طبعا من غير المتّهمين أنفسهم وبحكم طبيعة دينهم أصلا، إذ يطالَبون بالقسم على كتمان أسراره؛ وإذا كانت الأسرار السّاموتراقيّة* والإليوسيّة* تبقى طيّ الكتمان، فكم ستثير تلك أكثر منها غضب النّاس حاضرا وغضب اللّه المستبقى ليوم آت. إن لم يكشفوا إذن أسرارهم، فلا بدّ أنّ أجانب عن ملّتهم وشوا بهم؛ ومن أين لأجانب العلم ما دامت ديانات الأسرار، حتّى الّتي جوهرها التّقوى، تستبعد الغرباء وتحتاط من الشّهود، إلاّ إن كانوا كفرة فهم أقلّ خوفا*؟ طبيعة الإشاعة معروفة للجميع. من أقوالكم أنّ "لا آفة أسرع من الشّائعة"*. لماذا تعدّ الإشاعة شرّا؟ ألسرعتها؟ ألأنّها غالبا تشهير؟ أم لأنّها زور؟ هي الّتي حتّى إن حملت نواة من الصّدق لا تخلو من الكذب، فتنقص وتزيد وتحوّر في الحقيقة. لماذا؟ لأنّ شرط وجودها هو ألاّ تستمرّ إلاّ إن كذبت، وتبقى طالما لم تثبت ما تزعم، فحالما تثبته ينتهي وجودها، كما لو أنّها أنجزت مهمّة الإخبار بإذاعة النّبإ، ومن ثمّ يؤخذ على أنّه خبر صحيح ويشار إليه كذلك. لا أحد يقول مثلا: "يقال: وقع كذا برومية" أو "يشاع أنّ فلانا اختير لولاية ذلك الإقليم"، بل :"ولّي فلان ذلك الإقليم" و"وقع برومية كذا". لا مجال للإشاعة الّتي هي اسم الظّنّيّ غير الثّابت حيثما يوجد المحقّق الثّابت؛ وهل يصدّق الإشاعة لعمري غير أخي الجهالة؟ العاقل الرّصين لا يصدّق ما ليس ثابتا؛ يمكن للجميع أن يروا أنّها، مهما بلغت رقعة انتشارها، ومهما بلغت من الوثوق، وُلدت حتما من مصدر واحد محدّد في آخر المطاف، تسلّلت منه زحفا في قنوات الألسن والآذان. هكذا يطغى العيب الّذي تحمله هذه البذرة البسيطة على كلّ جوانب الإشاعة، إلى درجة أنّ لا أحد يفكّر ما إذا كان هذا الفم الأوّل قد بذر كذبا، وهو ما يحصل كثيرا إمّا بروح الكراهية، أو للحكم بالشّبهة، أو لمجرّد حبّ الكذب غير المكتسب بل الفطريّ عند بعض النّاس. لكن لحسن الحظّ يكشف الزّمان كلّ الخفايا، كما تشهد بذلك حِكمكم وأمثالكم السّائرة*، بذلك قضت الطّبيعة الإلهيّة كيلا يظلّ شيء خافيا أبد الدّهر، حتّى ما لم تنشره الشّهرة. لا غرو إذن أن تكون الشّهرة الشّاهد الوحيد على جرائم النّصارى؛ ذاك هو الدّليل الوحيد الّذي تستشهدون به ضدّنا، والّذي لم يستطع حتّى اليوم إثبات ما أشاع عنّا فيما مضى ورسّخ في الأذهان بمرّ الزّمان.

8- سخف تلك الإشاعات

لكي أحكّم الطّبيعة نفسها ضدّ من يرون تلك الإشاعات جديرة بالتّصديق، ها نحن نعرض عليكم جزاء تلكم الفعال: إنّها تعد بالحياة الأبديّة؛ صدّقوا ذلك مؤقّتا؛ أسألك عندئذ، أنت الّذي تؤمن بذلك، أتعطي مثل تلك الأهمّية لأن تصل إليها بهذا الوزر على ضميرك. تعال أغمد سيفك في هذا الطّفل الّذي ليس عدوّا لأحد ولا مذنبا بشيء، الّذي هو ابن الجميع، وإلاّ إن تركت لغيرك هذه المهمّة، فلتحضر فقط إلى جانب بشر يلفظ الأنفاس قبلما عاش، وانتظر أن تفارق بدنه روحه الغضّة، واجمع دمه الزّكيّ الجنيّ فأغمس فيه خبزك، وهنيئا خذ منه وطرك. ثمّ استلق أمام المائدة واحفظ مكانيْ أمّك وأختك حولها، تبيّنهما جيّدا حتّى لا تخطئ لمّا ينزل بفضل الكلاب ظلام اللّيل؛ فستكون ارتكبت جرما شنيعا إن لم تزن بمحارمك. وتعيش بعدما ولجت إلى هذه الحياة وحملت ختمها حياة أبديّة. أودّ أن تجيبني إن كانت الحياة الأبديّة تساوي هذا الثّمن؛ وإلاّ فلا ينبغي تصديق ذلك. وحتّى لو صدّقتَ أُنكر أن تكون لك فيه رغبة، وحتّى لو رغبتَ أنفي أن يكون بمقدورك فعله. فلِم تصدّق والحال تلك أن يكون بوسع الآخرين إتيانه، ما دمتم أنتم لا تستطيعون فعله؟ ولِم لا تستطيعون إن كان غيركم يستطيع؟ ما أظنّنا إلاّ من طينة مختلفة، فهل نحن من أشباه الكلاب* أو من الوحوش والأغوال*؟ ألدينا تشكيلة مختلفة من الأسنان، أننفرد بغرائز تدفعنا إلى الشّبق الحرام؟ ما دمتَ تصدّق هذه الأشياء عن بشر يمكن أن تفعلها أنت أيضا؛ أنت إنسان كالنّصرانيّ تماما؛ وما لا يمكن أن تفعله يجب ألاّ تصدّقه؛ فالنّصرانيّ إنسان مثلك. لكن قد يقال إنّ ذلك يُعرض ويُفرض عليهم وهم يجهلون؛ فعلا لم يكونوا يعلمون بما يؤكّد حول النّصارى، بينما كان المفروض أن يحقّقوا حوله بأنفسهم ويتثبّتوا منه باحتياط. عادة من يريدون الدّخول في ديانة ما، في اعتقادي، الحضور أوّلا عند الأب حافظ أسرارها لوصف ما يتعيّن جلبه. سيقول المعلّم إذّاك: "عليك بطفل ما زال غضّ الإهاب يجهل الموت ويبتسم تحت شفرة الموسى، وبخبز تثرده في دمه، وكذلك شمعدان وفوانيس وعدد من الكلاب ولُقَم لتنطّ لالتقافها فتوقع الشّموع؛ ويجب بالأخصّ أن تأتي مع أمّك وأختك". ماذا إذن لو لم تريدا مرافقتك، بل لو لم توجدا أصلا؟ ماذا عن النّصارى الّذين يعيشون فرادى بلا أقارب؟ لن يكون المريد نصرانيّا إذن، على ما أرى، ما لم يكن ابنا أو أخا. والآن ماذا لو أُعدّت لهم كلّ هذه الأشياء بغير علمهم؟ لا شكّ إذن أنّهم سيعلمونها بعدئذ ويرتضونها. أتراهم سيخافون العقاب إن بلّغوا عنها وهم إذّاك سيستحقّون حماية القانون بل وسيؤثرون الموت على العيش وتلك الجرائم تثقل ضمائرهم. هبهم جدلا يخافون الآن، فلم يتمادون في تلك الممارسات؟ فبيّن أنّ المرء لا يرضى بالاستمرار على وضعٍ ما كان يرضاه لنفسه لو كان يعلمه.

9- ردّ التّهم إلى الوثنيّين

لأفنّد أكثر هذه الشّبهات عنّا، سأبيّن أنّها كانت تحصل بين ظهرانيكم، جزء منها خفية، وجزء علانية، وذاك على الأرجح ما جعلكم تصدّقون صدورها عنّا. كان الأطفال يقدَّمون ذبائح لساترنوس* في إفريقية* علنا حتّى ولاية تيبريوس* الّذي عرض كهنته أحياء مصلّبين على أشجار معبدهم الّتي ظلّلت تلك الجرائم، يشهد بذلك جيش أبينا* الّذي نفّذ هذه المهمّة لذلك الوالي. لكن ما زال مستمرّا في الخفاء حتّى اليوم ذلك الجرم الطّقوسيّ*؛ فليس النّصارى وحدهم من يستنكرون فعالكم ولا تُستأصل أيّة جريمة بصفة مستديمة، أو يغيّر إله ما تصرّفاته. ما كان ساترنوس* الّذي لم يعفّ عن بنيه أصلا، إلاّ سيتمادى لا شكّ في قتل أبناء غيره، والحال أنّ آباءهم أنفسهم كانوا يقدّمونهم له، ويستجيبون بطيب خاطر لطلبه ويلاطفون صغارهم كيلا يبكوا وهم يذبحونهم؛ شتّان مع ذلك بين قتل ذوي القربى وقتل غيرهم. في بلاد الغال يقدّم قرابينَ لمركوريوس* فتيانٌ أكبر سنّا؛ أعيدُ كذلك لمسرح أحداثها القصص الطّوريّة*؛ لكن حتّى في هذه المدينة الدّيّنة المأهولة بحفدة إينياس*، هناك تمثال ليوبتر* يغسلونه بالدّم البشريّ في الألعاب المقامة باسمه؛ قد تعترض بأنّه دم مصارع وحوش؛ أردّ: "أهو لذلك أرخص من دم إنسان آخر؟ أم تراه أنجس لأنّه لمجرم؟ هو في نهاية الأمر دم مسفوح في عمليّة قتل نفس بشريّة؛ فوايوبتر* النّصرانيّ ابن أبيك الأوحد في الوحشيّة! أمّا أنّ لا فرق في قتل الأطفال سواء تمّ بدافع طقوسيّ أو شخصيّ، وإن وُجد فرق لا محالة بين قتل القريب وغيره، فسأحكّم الشّعب في المسألة؛ كم بين هذه الوجوه المتألّبة حولنا المتعطّشة إلى دم النّصارى، وحتّى من بين الولاة الرّحماء بكم والقساة علينا، من سأحيلهم على ضمائرهم لقتلهم فلذات أكبادهم عند ميلادهم*. وإن وُجد فرق بخصوص طريقة القتل، فلا جرم أنّ كتمكم أنفاسهم في الماء أو تعريضكم إيّاهم للموت من البرد أو الجوع أو بين أنياب الكلاب أشدّ بطشا ووحشيّة؛ وأنّ الأكبر سنّا سيفضّل لا شكّ الموت بحدّ السّيف. أمّا عندنا فقتل النّفس محرّم إلى الأبد فلا يحلّ لدينا حتّى إسقاط الجنين من رحم أمّه، وهو لم يزل في طور التّكوين من الدّم؛ فما الإجهاض سوى تعجيل بالقتل ولا فرق في الحقيقة بين انتزاع نفس الوليد وإعدام كائن في طريقه إلى الميلاد. فإنسان أيضا من هو صائر إلى الإنسانيّة، كما أنّ كلّ ثمرة موجودة في بذرتها*. أمّا الاغتذاء بدم البشر وما إلى ذلك من أطعمة فظيعة فاقرؤوا في بعض المراجع، عند هيرودوت* في ظنّي، كيف كانت بعض الأمم تبرم مواثيق بشرب الدّم المفصود من ذراعي الطّرفين؛ ووقع أيّام كاتلينا* شيء مماثل؛ يقال أيضا إنّ ذوي الميّت عند بعض الشّعوب السّكيثيّة* يلتهمونه. لكن لم الذّهاب بعيدا وفي زمننا يفصد عبدة بلّونة* أفخاذهم فيجمعون حفنة من الدّم المعدّ لطقوسها ويقدّمونه عربونا لميثاقها. بل أين أولئك الّذين يتهافتون في عروض المصارعة على الحلبة ليجتنوا دم القتلى المجرمين وهو لا يزال طازجا يشخب من حناجرهم فيأخذونه بلهف لعلاج الصّرع؟ ومثلهم أولئك الّذين يتغذّون من الوحوش المقتولة في الحلبة ويشتهون لحوم الخنازير البرّيّة والأيائل؛ ذاك الخنزير ملطّخ بدم مصارعه المراق، وذاك الأيّل تمرّغ في دم المصارع؛ بل يتشهّى بعضكم كروش الدّببة وهي لا تزال متخمة بلحوم بشريّة، فلحم مغذّى من إنسان يفوح من ذلك الإنسان. أنتم الّذين تأكلون كلّ ذلك، كم من مآدب النّصارى رفضتم؟ وهل يصنع أقلّ ممّا ترموننا به أولئك الّذين يلتهمون بشهيّة الوحوش أعضاء بشريّة، لأنّهم ببساطة يأكلونهم أحياء؟ أم تراهم أقلّ تنجّسا بالدّم البشريّ لأنّهم يلعقون ما سيتستحيل دما؟ صحيح أنّهم لا يأكلون صبية بل فتية في سنّ البلوغ. فلتخجلوا بضلالكم منّا نحن النّصارى الّذين نحرّم أكل دم الحيوان، ولذا نستنكف عن الميتة والمنخنقة كيلا نترجّس بأيّ نحو بالدّم بما في ذلك ما انطوت عليه الأحشاء*. ثمّ إنّكم لامتحان النّصارى تقدّمون لهم نقانق حشيت دما وأنتم لا شكّ تعلمون يقينا أنّ ما تريدون أن تفتنوهم به محرّم عليهم؛ فكيف استقرّ في أذهانكم أن يستسيغ دمَ الإنسان أولئك الّذين تعلمون جيّدا أنّهم يقرفون دم الحيوان، إلاّ إن كنتم ربّما جرّبتموه ووجدتموه ألذّ مذاقا؟ بل ما كان أحراكم حقّا بإحضاره كالمذبح أو المبخرة فتتّخذوه معيارا لاختبار النّصارى؛ فتثبتوا أنّهم نصارى إن استساغوا الدّم البشريّ حتّى إن امتنعوا عن تقديم الذّبائح، أو تبرّئوهم إن استنكفوا عن تذوّقه كما في حال تقديم قرابين؛ ولن تعدموا دما بشريّا في غرف استنطاق سجونكم وساحات القصاص. أمّا زنا المحارم فمن يبزّ في ممارسته من علّمه لهم يوبتر نفسه*؟ يورد أكتسياس* أنّ الفرس كانوا يزنون بأمّهاتهم. لكنّ المقدونيّين أيضا مشتبه بهم بدليل أنّهم لمّا سمعوا أوّل مرّة مسرحيّة أوديب* تضاحكوا ساخرين من أسى البطل الّذي وقع بغير علم في الزّنا بأمّه، قائلين: "سخافات يونان! فلتنز على أمّك." بل حتّى في زماننا هذا، أقرّوا كم يتيح من فرص للزّنا بالمحارم بطريق الخطإ مجونكم المتفسّخ: أوّلا تتخلّون عن أبنائكم فتعرضونهم على المارّة لعلّ غريبا تأخذه بهم رحمة فيحملهم، أو تخرجونهم من كفالتكم ليتبنّاهم آباء أفضل حالا؛ لا بدّ إذّاك أن تضمحلّ يوما ذاكرة نسلكم الّذي فرّطتم فيه، مع وقوع الخطإ، فلا يلبثون أن يقعوا في مزلّة الزّنا بالمحارم، وتنتقل اللّطخة بتعاقب الأجيال. كذلك أينما كنتم، في حلّكم وترحالكم، بل وفي ما وراء البحار، الشّبق رفيقكم. فمن السّهل أن تجمع نُجعاته هنا أو هناك، في مراتعه المتناثرة في كلّ مكان، أبناء بآباء يجهلون أبوّتهم، فتلتقي بعض البذار المنتشرة بهذا النّحو عبر العلاقات البشريّة بذوي قرباها فتعمى عن تعرّف محارمها. أمّا نحن فوَقتْنا عفّتنا اليقظة الدّؤوب حدوث ذلك، وبقدر ما نصون أنفسنا عن الفواحش وكلّ علاقة خارج الزّواج، نحن بمأمن من أيّ زنا بمحارمنا عن طريق الخطإ؛ بل إنّ بعضنا في وضع أضمن للسّلامة إذ يدفعون كلّ احتمال لهذا الخطإ ببتوليّتهم فيظلّون وهم شيوخ أطفالا*. لو دقّقتم النّظر لوجدتم هذه المذامّ فيكم ورأيتم أنّ النّصارى منها برءاء. ولعمري إنّ العيون لتخبر بكلتا الحالتين. لكنّ نوعين من العمى يتظافران بسهولة ليتراءى لمن لا يرون ما هو موجود أنّهم يرون ما ليس له وجود؛ سأبيّن ذلك من خلال كلّ ما يلي؛ والآن سأتناول الأمور العلنيّة.

10- الآلهة الوثنيّة في الأصل بشر

تقولون: "أنتم لا تعبدون الآلهة ولا تقدّمون القرابين للأباطرة؛" امتناعنا عن تقديم القرابين باسم آخرين ناتج عن نفس المبرّر الّذي ينهانا عن فعله من أجل أنفسنا وهو امتناعنا عن عبادة أولئك الآلهة. لهذا السّبب يُقبض علينا بتهمة انتهاك حرمة الآلهة والأباطرة: ذاك سببها الرّئيسيّ بل جوهرها، ونعترف بلا جدال بوجاهته، شرط ألاّ يكون الحكْم للظّنّ أو الظّلم فأحدهما يضيع الحقيقة والآخر ينبذها. فعلا نستنكف عن عبادة آلهتكم لعلمنا بأنّهم ليسوا آلهة؛ ما عليكم إذن إلاّ أن تطالبونا بإثبات أنّهم ليسوا آلهة ولا موجب بالتّالي لعبادتهم فإنّما تجب عبادتهم فقط لو كانوا آلهة بحقّ؛ وحينئذ يجب أن يعاقَب النّصارى ما دام قد ثبت أنّ من يأبون عبادتهم لإنكارهم ألوهيّتهم آلهة حقّا. تقولون: "لكنّهم آلهة في عرفنا". نرجع إلى عقلكم ونحكّمه بيننا: ليحكمْ علينا وليُدنّا إن استطاع تفنيد كون آلهتكم جميعا بشرا في الأصل. وإن لم يؤيّدنا هو أيضا فستقنعه وثائق الماضي الّتي خلّفوها وعُلمت منها أخبارهم، فهي تقدّم إلى يومنا هذا شهادة بالمدن الّتي ولدوا فيها، والبلاد الّتي تركوا فيها آثار أعمالهم، وأين شوهد دفنهم*. أفيجب أن أستعرضهم الآن واحدا واحدا، وهم ما هم كثرة وتنوّعا، جددا وقدامى، أعاجم ويونانا ورومانا وأغرابا، مستوردين ومولّدين، خواصّ ومشتركين، ذكرانا وإناثا، مدرا وحضرا، بحريّين وحربيّين؟ بل غير مجد في اعتقادي حتّى تتبّع ألقابهم، لجمعهم في موسوعة، لا لتعرفوهم بل لتتذكّروهم؛ فلا شكّ أنّكم نسيتم الكثير عنهم#؛ لا إله عندكم يتقدّم على ساترنوس*، فمنه انبثقت سلسلة أعظم وأشهر الآلهة؛ لذا فما يصحّ على الأصل ينطبق كذلك على النّسل. الحقيقة حول ساترنوس* حسب ما تخبرنا الكتب هو أنّ لا ديودورس* الإغريقيّ ولا ثالّوس* ولا كسّيوس سويروس* او كُرنليوس نيبوس* ولا أيّا من الباحثين في التّاريخ القديم أكّد شيئا آخر غير أنّه إنسان. أمّا إن أردنا الحجاج انطلاقا من الوقائع، فما إخالني أجد قطّ أفضل وأحقّ بالثّقة ممّا نجد عنه في إيطالية حيث أقام بعد بطولاته العديدة ومقامه بأتّيكة*، فنزل ضيفا على يانوس أو يانس* كما يريد السّاليّون*. فالرّبوة الّتي أقام عليها تسمّى ساترنيوس* والمدينة الّتي شادها تدعى إلى يومنا هذا ساترنية*؛ أخيرا صارت إيطالية بأكملها بعد تسميتها القديمة أُنترية* تدعى ساترنية*؛ وهو أوّل من اخترع الخطّ والرّسم وسكّ النّقود* ولهذا السّبب بالذّات يعدّ حامي بيت المال. لكن إذا كان ساترنوس* إنسانا فلا شكّ أنّه ولد من إنسان؛ وبما أنّه انحدر من إنسان، فما أتى قطعا من السّماوات والأرض؛ لكن لمّا كان أبواه مجهوليْن، كان سهلا أن يقال عنه إنّه ابن ذينك العنصرين اللّذين قد نبدو نحن أيضا كلّنا أبناءهما. من فعلا لا يدعو السّماء والأرض أباه وأمّه من باب الإجلال والإكرام أو جريا على عادة النّاس القول عمّن لا يعرفونهم أو من يظهرون بينهم فجأة إنّهم وقعوا من السّماء؟ من هنا قيل حيثما ظهر ساترنوس* بغتة إنّه هبط من السّماء؛ كذلك يدعو العامّة مغموري النّسب الّذين لا يعلمون لهم أصلا ثابتا أبناء الأرض*؛ وغنيّ عن الذّكر أنّ النّاس كانوا يعيشون إذّاك حياة خشونة بحيث كانوا يتأثّرون لمرأى أيّ رجل جديد عليهم كما لو كان إلها، ما دام النّاس اليوم، بعدما تحضّروا، يكرّسون أربابا من أقرّوا بدفنهم قبل أيّام في حداد رسميّ بأنّهم فناة*. كفى ما قلنا عن ساترنوس* على قلّته؛ وسنبيّن أنّ يوبتر* هو الآخر إنسان وابن إنسان وأنّ كلّ سلالته فناة كالبذرة الأصليّة.

11- لا داعي لوجود تلك الآلهة، وإن رقّي أولئك الأفراد إلى مصافّ الآلهة فثمّة من هو أحقّ منهم بذلك

وبما أنّكم، بالمثل، لعجزكم عن نفي كونهم بشرا، ذهبتم إلى القول بأنّهم صاروا آلهة بعد موتهم، سنتناول حججكم القاضية بذلك. لابدّ لكم بدءا أن تسلّموا بوجود إله أعلى ومانح للألوهيّة، جعل من أناس آلهة في الماضي؛ فما أمكنهم احتياز الرّبوبيّة الّتي لم يكونوا يملكونها بمحض قدراتهم ولا أمكن غيرهم إسنادها إليهم وهم أخلاء منها إن لم يكن بدوره يملكها على الوجه الأكمل. وإلاّ، إن لم يكن هناك من يحيل البشر آلهة، فمن لغو الحديث افتراض تحوّلهم إلى آلهة وقد استبعدتم الصّانع: إذ من البيّن أنّهم، لو كانوا يستطيعون التّحوّل من تلقاء أنفسهم لما كانوا بشرا قطّ وهم يمتلكون القدرة على المصير إلى وضع أفضل. إن افترضنا إذن وجود من يصنع الآلهة، فلأهتمّ بفحص علل صنع آلهة من البشر، ولا أجد لذلك مبرّرا إلاّ إن كان ذلك الإله الأعظم يبتغي له أعوانا ومساعدين على مهامّه الرّبّانيّة؛ أوّلا لا يليق بمقامه أن يحتاج إلى معونة آخر وفان فوق ذلك، بينما كان أجدر به منذ البدء، وهو يعلم رغبته اللاّحقة في عون فان، أن يصنع للغرض إلها بالأحرى. على أنّي لا أرى للعون مجالا: فبيّن أنّ كيان هذا العالم كلّه، سواء كان قديما على رأي فيثاغور* أو محدثا على رأي أفلاطون*، قد رُتّب منذ البدء بتدبير حكيم على نحو بديع من التّنسيق والنّظام والاتّساق؛ ولا يمكن أن يكون ناقصا من أنشأ كلّ الكائنات على ذاك النّحو من الكمال. وما كان لينتظر ساترنوس* ونسله؛ فما أفسل البشر إن لم يعتقدوا جازمين أنّ هذا الكون شهد منذ منشئه انثيال الأمطار من السّماء، وتلألؤ الأنجم وسطوع الأنوار وهزيم الرّعود؛ وأنّ يوبتر* نفسه الّذي تضعون في يده مجنّ البروق كان يقفقف منها جزعا؛ وأنّ خروج الثّمرات من تحت الثّرى تمّ قبل ليبر* وكيريس* ومينرفة* بل قبل نشأة أوّل إنسان، فما كان لشيء ممّا دبّر لتأمين معاش الإنسان وحفظ بقائه أن يُجلب بعدما عمر الإنسان الأرض. يقولون أخيرا إنّهم اكتشفوا حواليهم مستلزمات الحياة ولم ينشئوها؛ لكنّ ما يُكتشف وُجد من قبل، ومن ثمّة لا يعزى لمكتشفه بل لصانعه، فقد وُجد قبل اكتشافه. وإن استحقّ ليبر* الألوهيّة لتعليمه النّاس غراسة الكروم فما إخالكم أنصفتم لوكلّوس* أوّل من جلب الكرز من بلاد الجسر* إلى إيطالية، ولم يكرَّس مثله، كموجد ثمرة جديدة لكونه أوّل من دلّ النّاس عليه. وعليه، إن وُجد الكون منذ مبتداه متّسقا ومجهّزا بشتّى الأسباب الّتي تتيح أداء وظائفه، فلا داعي من هذه النّاحية لإلحاق الإنسانيّة بمصافّ الرّبوبيّة، فقد وُجدت من الأصل تلك القدرات والوظائف الّتي وزّعتموها على آلهتكم، وكانت ستوجد حتما حتّى لو لم تبتدعوهم. لكنّكم تلجؤون إلى حجّة أخرى، رادّين بأنّ منح الألوهيّة كان من قبيل مكافأة الاستحقاق؛ تقرّون ضمنيّا إذن كما أرى، بأنّ ذلك الإله مانح الألوهيّة يفوق عدلا كلّ من عداه، هو الّذي يوزّع مكافآت بهذا القدر بلا اعتباط ولا إسراف ولا لغير أهلها. أريد إذن أن تعرضوا، إن وُجدت، تلك المآثر الّتي رفعت أصحابها إلى علياء السّماء بدلا من غمسهم في غيابة التّرتار* الّذي تزعمونه على هواكم المعتقل المعدّ لعقاب العالم السّفليّ*. فهناك اعتدتم نقع عاقّي الآباء والزّناة بالأخوات والزّناة بالمحصنات وسباة الفتيات ومفسدي الغلمان والعتاة والقتلة واللّصوص والمكرة وكلّ من يشبهون أحد آلهتكم، إذ لا يمكنكم إثبات تنزّه أيّ منهم عن الجريمة أو الرّذيلة إلاّ إن نفيتم أنّه إنسان. لكنّكم لا تستطيعون نفي أنّهم كانوا بشرا فتلك صفات إضافيّة تمنع الاعتقاد بتحوّلهم لاحقا إلى آلهة؛ إن كنتم تحرصون على معاقبة تلك الفعال وكان كلّ شخص نزيه بينكم يرفض معاملة أو محادثة أو مخالطة الأشرار والفجّار، بينما شرّك ذلك الإله في جلال ربوبيّته أمثالهم، فلِم تُدينون من تعبدون نظراءهم؟ إنّ عدالتكم لوصمة في وجه السّماء: ألّهوا إذن أشراركم لتُرضوا آلهتكم فتكريس أمثالهم شرف لهم. لكن لأتغاضى عن مخازيهم، سأسلّم بأنّهم كانوا أمناء ونزهاء وصالحين؛ كم تركتم والحال تلك في غياهب العالم السّفليّ* من رجال يفوقونهم فضلا؟ أناسا في حكمة سقراط* أو عدل أرستيدس* أو حنكة ثيمستوكل* أو همّة الإسكندر* أو حظّ بولقراط* أو في غنى كرويسوس* أو بلاغة ديمسثينس*؟ مَن مِن آلهتكم أكثر حكمة ورصانة من كاتون* أو أعدل وأشدّ للحرب مراسا من شبيون*؟ من هو أعلى همّة من بُمبيوس* أو أسعد حظّا من سولاّ* أو أوسع ثراء من كراسّوس* أو أفصح لسانا من تولّيوس*؟ ما كان أحرى بربّكم ذاك التّريّث ليتّخذ من هؤلاء آلهة، هو العالم منذ النّشأة الأولى بالأفضلين أعمالا! لقد تعجّل في اعتقادي في إغلاق بوّابة السّماء، ولا شكّ أنّه اليوم يخجل إذ يسمع وشوشات أناس أفضل منهم في سدف العالم السّفليّ*.

12- أوثان لا تنفع ولا تضرّ

أدع هذا الآن، لعلمي بأنّي لمّا أعرض ما هم سأكون بنفس الاستدلال قد بيّنت ما ليسوا هم؛ بشأن آلهتكم لا أرى ولا أسمع غير أسماء وقصص أناس بادوا منذ دهور، وأتبيّن طقوسا قائمة على أساطير. أمّا بشأن النّصب فلا أجد فيها سوى موادّ هي أخت الّتي تصنع منها الأواني والأدوات العاديّة، أو هي من تلك الأواني كما لو بدّل تكريسها للعبادة مصائرها وشكّلتها صوراً يد الفنّ بنحو مستهتر وأثيم في عملها هذا، إلى درجة أنّا نحن المعذَّبين بسبب هذه الآلهة بالذّات نجد عزاء عن تعذيبكم لنا في كونها هي الأخرى عانت أثناء تشكيلها عذابا مماثلا. تعلّقون النّصارى على الأعمدة والصّلبان، فأيّ صنم لم يشكَّل من طينته أوّلا على ركيزة بشكل عمود أو صليب؟ كما ترون، يكرَّس جسد إلهكم أوّلا على عمود الصّلب. وإن كنتم تمزّقون بأظافركم* جنوب النّصارى مُزعا، فإنّكم تُعملون في سائر أعضاء آلهتكم، وبعنف أشدّ، الفؤوس والأزاميل، والمساحيج والمصاقل والمكاشط؛ نحن نضع على النّطع رؤوسنا، أمّا آلهتكم فبلا رؤوس أصلا، قبل أن تضعوا لها الرّصاص والملاط والدّسر. تُلقون بنا إلى السّباع؛ لكنّكم تلصقونها بليبر* وقُبيلة* وكيلستيس*. تحرقوننا بالنّار، وكذلك تُعملونها فيها وهي مادّة خامّ لم تشكّل؛ تحكمون بحبسنا في المناجم، ومن باطنها تتّخذون آلهتكم؛ تنفوننا في الجزر، وكم من إله ممّن تعبدون ولد أو مات في جزيرة؛ فإن كانت الألوهيّة تتمثّل في هاته المواصفات، فإنّ من تعاقبون ليُكرّسون آلهة، ويجب أن يعدّ تعذيبهم تأليها. لكنّ آلهتكم عديمة الإحساس كلّيّا بالإهانات والأنكال المقترنة بصنعها كمالا تحسّ عباداتكم؛ يا للأقوال الكفورة ويا للسّخريات الأثيمة! فلتصرّوا بأسنانكم ولترعدوا وتزبدوا! فأنتم أنفسكم تستحسنون رجلا كسينيكا* تحدّث عن عقائدكم الفاسدة بنحو أوفى وألذع. لذا إن ندعْ عبادة أصنامكم وأوثانكم الهامدة الباردة كأصحابها الأموات*، واّلتي تعشّش في جنباتها العقاعق والفئران والعناكب، أما كان العدول عن الخطإ بعد معرفته عملا يستحقّ الثّناء بدل العقاب؟ ثمّ أيمكن أن يبدو لأحد كأنّا نهين أشياء نجزم بألاّ وجود لها؟ فما لا يوجد لا يألم من أحد لأنّه عدم.

13- تساهل الرّومان في إسناد الألوهة. ذمّ الآلهة الوثنيّة

قد تقولون: "لكنّهم عندنا آلهة"؛ فكيف إذن يُنظر إليكم بالعكس ككفرة خطأة فجرة تجاه تلك الآلهة؟ تؤمنون بوجودها وتهملونها، ترهبونها وتدمّرونها، تثأرون لها وتهزّئونها. تبيّنوا إن كنت أكذب: أوّلا يعبد كلّ منكم آلهة مختلفة ومن ثمّ تهينون الّتي لا تعبدون: لا يمكن اختيار أحدها دون إغاظة الآخر فلا انتقاء بلا استبعاد. أنتم إذن تزدرون الّتي تنبذون والّتي لا تخشون إغاظتها بإعراضكم عنها؛ ولا غرو، فكما ألمعنا أعلاه، كانت وضعيّة كلّ إله تتوقّف على فتوى مجلس الشّيوخ* فيه. وما كان ليعَدّ إلها من رفضه الإنسان إذ أبدى فيه رأيه، وبرفضه حكم عليه بالعدم. وعلى آلهتكم البيتيّة* الّتي تدعونها لارات* تمارسون سلطتكم كأرباب البيت، فترهنونها أو تبيعونها أو تعيدون تشكيلها إلى شتّى الأواني: محيلين ساترنوس* تارة إلى قدر، ومينرفة* طورا إلى كبشة، كلّما تآكل أو انكسر أيّ منها بطول تعبّدكم إليه، أو أحسّ أنّ الحاجة المنزليّة ربّ أقدس. كذلك تهينون آلهتكم العامّة، وفق قوانين الحقّ العامّ، فتضعونها في المزاد كرعيّة خاضعة للجزية. تقصدون الكابتول* كما تقصدون سوق الخضار: ومع نفس صيحة الدّلاّل، ونفس تراتيب المزاد، ونفس إجراءات التّقييد في سجلاّت المراقب*، تقتادون إلهكم المعدّ للبيع. لكنّ الحقول المثقلة بالخراج أبخس، ورؤوس البشر الخاضعة للجزية أقلّ قيمة عند تعداد السّكّان، فتلك الجبايات وصمات الأسر، أمّا آلهتكم فكلّما ارتفعت الضّريبة عليها زادت قداستها، بل كلّما زادت قداستها زادت ضريبتها. هكذا تردّ القداسة إلى مسألة ماليّة بحتة؛ ويلفّ الدّين بالحانات مستجديا؛ كذلك تطلبون ثمنا لوطء أرض المعبد والدّخول إلى الأقداس؛ لا سبيل لمعرفة الآلهة مجانا، فلها ثمن ككلّ ما يباع ويشترى. أيّ شيء تفعلون لتكريمها لا تصنعون لموتاكم مثله؟ مزارات متماثلة ومذابح متماثلة؛ نفس المقام ونفس البيانات المنقوشة على شواهد. للإله مثل ما للميّت: عمر وحرفة وشغل؛ فيم يختلف العشاء المعدّ ليوبتر* عن عشاء الموتى؟ والكوب الّذي تقدَّم فيه النّخب لآلهتكم عن ذاك المعدّ لشرب الموتى؟ أو سدنة الآلهة عن دفّان الموتى؟ فالسّادن يقدّم للموتى أيضا خدماته. لكنّكم مصيبون في إضفائكم أمجاد الألوهيّة على الأباطرة الأموات بعد تعظيمهم أحياء، فلا شكّ أنّ آلهتكم يرضون ذلك منكم، بل سيشكرونكم عليه، لأنّكم جعلتم أسيادهم نظراءهم. بل حين تعبدون في شخص لارنتية* بغيّا تبيع للعموم مفاتنها، ولو كانت على الأقلّ لاييس* أو فرينة* بين معبوداتكنّ من قبيل يونون* وكيريس* وديانة*، ولمّا تكرّسون سمعان السّاحر* إلها وتنحتون له تمثالا تكتبون عليه لقب الإله القدّوس، لمّا تجعلون أحد مماليك القصر الامبراطوريّ* ربّا له مكانه في مجمع الآلهة، ستنظر آلهتكم الأقدم عهدا، وإن لم تكن الأشرف معدنا، إلى ذلك كإهانة منكم، لمنحكم آخرين ما منحهم وحدهم القِدم.

14- الرّومان أنفسهم يروون مثالبها

لا أريد هنا استعراض طقوسكم، ولا أذكر بأيّة عقليّة تقدّمون القرابين لآلهتكم، لمّا تنتقون للتّضحية المتردّية والجرباء، ولمّا تقتطعون من الزّكيّ السّمينِ الغثَّ، والرّؤوس والأظلاف الّتي تخصّصونها في بيوتكم للعبيد والكلاب، وعند إعطاء العشر المفروض لهرقل* لا تضعون منه الثّلث على مائدة النّذور؛ بل أشيد بحكمتكم في إنقاذكم من التّلف بعض مالكم. لكن إن أوجّه نظري إلى مدوّناتكم حيث تتعلّمون الحكمة والصّنائع الشّريفة، فماذا بهنّ من المضحكات! أجد الآلهة مجتمعين يختصمون مثل أزواج من المصارعين بسبب الطّرواديّين والآخيّين، وفينوس* كليمة بسهم بشريّ لأنّها أرادت انتشال ابنها أيناس* بعدما كاد ديوميدس* يقتله*. ومارس* كاد يهلك من حبسه في القيود ثلاثة عشر شهرا* ويوبتر* ينجو بفضل وحش من التّعرّض لعنف مماثل من بقيّة آلهة السّماء* ويبكي تارة مصير سربيدون* ويتذلّل طورا لأخته بنحو مخز ويذكر أنّه لم يحبّ مثلها عشيقاته السّابقات*. هل وُجد مذّاك شاعر لم يعمد مقتفيا آثار أميرهم* إلى وصم الآلهة بكلّ مخزية؟ هذا يحكم على أبولّون* برعي قطعان الملك أدْمِتوس*، وذاك يؤجّر أعمال نبتون* كبنّاء للملك لاوميدون*. بل من الشّعراء، وبنداروس* أعني، من أنشد بأنّ أسكولابيوس* حُكم عليه بصعقة جزاء رغبته المشطّة في ممارسة الطّبّ بنحو ضارّ*. فيا ليوبتر* من شرّير إن كان البرق خاضعا لسلطانه، وما أقلّ برّه بحفيده، وما أشرسه مع حكيمنا. ما كان لأخبار كهذه أن تروى إن كانت صادقة ولا أن تفترى إن كانت باطلة عند أناس ديّنين؛ لم يعف شعراء المأساة والملهاة الآلهة من مثلبة، فما من مكروه ولا خطإ ببيت أحد إلاّ ويجعلونه من صنع أحد الآلهة. لا أتكلّم عن الفلاسفة، وأقتصر على سقراط* الّذي كان يقسم بالحوْر والتّيس والكلب نكاية بالآلهة! لكنّ سقراط* أدين لتسفيهه الآلهة؛ ولعمري إنّ الحقيقة مبغوضة بالأمس كما هي اليوم وفي كلّ زمان. لكنّ الأثينيّين ندموا على حكمهم لاحقا وأدانوا أعداء سقراط* وأقاموا له نصبا من الذّهب في المعبد وردّوا لسقراط* اعتباره بنقض عقوبته. ديوجين* أيضا قال في هرقل* كلاما ساخرا لا أذكره، بينما جلب الكلبيّ* الرّومانيّ ورّون* ثلاثمئة يوبترا* بدون رؤوس.

15- تنديد بقبائحها وبالألعاب الوحشيّة الّتي ينظّمها الرّومان على شرفهم

بل تفنّنت أذهان آخرين في ذمّ الآلهة قصد إمتاعكم؛ انظروا إلى مُلح كتّاب كلنتولوس* وهستيليوس* اللّذين يضحكانكم بتمثيليّاتهما الهزليّة المصوغة في قالب حيل ومواقف مثيرة لا أدري أعلى المهرّجين أم على آلهتكم، عارضين أنوبيس* بمظهر الزّاني، والقمر* بمظهر الذّكور، وديانة* تُجلد، ووصيّة يوبتر* بعد موته تُلقى على مسامعكم بنحو مثير وثلاثة هراقل* عُجف نحّل مضحكين. لكن حتّى هذا الأدب التّهريجيّ السّاخر ينعت بنحو ما قبائحهم. هذا إله الشّمس* يبكي ولده الواقع من أعالي السّماء وسط ضحككم، وتلك قُبيلة* تتّقد شهوة على راع لا يبالي بهواها دون أن تردعكم مسكة من حياء، وتستمعون بدون اعتراض إلى المهرّجين ينشدون بنود وصيّة يوبتر* قبل موته وإلى راع* يحكم بين يونون* وفينوس* ومينرفة*. بل لمّا تضع صورة إلهكم رأسا بشعة ويمثّل جسم دنس أعدّه التّخنّث* لهذا الفنّ مينرفة* أو هرقل*، ألا تستباح حرمة الألوهيّة وتدنَّس قداستها وسط هتافاتكم؟ قد تكونون أكثر تُقًى على مدرّجات حلبة الصّراع حيث يرقص آلهتكم فوق الدّم البشريّ وفوق النّفايات المتبقّية من تنفيذ العقوبات مقدّمين للمجرمين مواضيع وحكايا، إن لم يتقمّص مجرمون غالبا آلهتكم أنفسهم. رأينا مرّة مشهد خصي أتّيس*، إلهكم البسّيننتيّ*، وشخصا يُحرق حيّا في دور هرقل*؛ وبين عروض الظّهر الوحشيّة ضحكنا على مركوريوس* يتفحّص بميسمه الموتى، ورأينا أخ يوبتر* يسحب جثث المصارعين بمطرقته*. من له باستقصاء كلّ هذه العروض بالتّفصيل لهذا الغرض؟ إن كانت تستهين بحرمة الألوهة وتمرّغ رفعتها فهي تعَدّ لا شكّ ازدراء للآلهة سواء عند من يقومون بها أو من لإمتاعهم يفعلون. لكن لتكن هذه مجرّد عروض للتّسلية؛ إن أضفتُ إلى ذلك ما تعترف به تماما ضمائر الجميع، أنّه داخل المعابد يدبَّر الزّنا، وبين المذابح تُعقد صفقات البغاء، وفي محاريب السّدنة والكهنة، بين البخور المتضوّع وتحت البيارق والأكاليل وحلل الأرجوان، تُشبع الشّهوة*، فلا أدري أمنكم أكثر أم من النّصارى تشكو آلهتكم؛ ومن بينكم أيضا يُقبَض دوما على ناهبي المعابد لا شكّ. فالنّصارى لا يعرفون معابدكم طول النّهار، وقد يسرقون منها لو كانوا يعبدونها هم أيضا. ماذا يعبد إذن من لا يعبدون تلك الآلهة؟ لقد بان أنّ من لا يعبدون الباطل يعبدون الحقّ وأنّهم لم يعودوا في الخطإ أولئك الّذين تخلّوا عنه بعدما عرفوه؛ فافهوا هذا أوّلا واستخبروا عن مجموع تعاليم ديننا، لكن لندحض قبل ذلك كلّ الأفكار الغالطة حوله.

16- ردّ على الرّسوم السّاخرة الّتي تستهدف المسيح

ذلك أنّكم كالبعض توهّمتم إلهنا رأس حمار؛ أدخل في الأذهان تلك الظّنّة كرنليوس تاكيتوس*. في الكتاب الخامس من تاريخه استهلّ سرده لحرب اليهود بالحديث عن أصل هذا الشّعب، وفي تحليله لأصله واسمه ودينه يذكر أنّ اليهود خرجوا من مصر أو، حسب رأيه، أُطردوا منها إلى مجاهل صحراء بلاد العرب المعطشة، ولمّا أرهقهم الظّمأ أثناء رحلتهم رأوا صدفة حمرا وحشيّة فكّروا أنّها بعد المرعى ستطلب المشرب فاهتدوا بها إلى نبع أخذوا منه حاجتهم، فألّهوا رأس دابّة* شبيهة من باب الاعتراف بالجميل. من ثمّ افتُرض في اعتقادي أنّا لقربنا من الدّين اليهوديّ نعبد نفس الصّورة؛ لكنّ كرنليوس تاكيتوس* وإن كان أكبر مهذار بين الكذّابين*، يفيد في نفس تاريخه المذكور، بأنّ غنَيوس بُمبيوس* لمّا فتح أورشليم وزار الهيكل للاطّلاع على أسرار الدّيانة اليهوديّة لم يجد هناك أيّ تمثال. وواضح أنّ المعبود، إن كان يمثّل بصورة ما، لا مكان أفضل لعرضه من معبده، سيما أنّه لم يكن يُخشى عليه، مع سخف عبادته، من شهود أجانب، إذ كان يُسمح بالدّخول إليه للأحبار فقط، بينما يمنع الآخرين ستار مسدل من رؤية ما بداخله. أمّا أنتم فلن تنكروا أنّكم تعبدون كلّ أنواع الدّوابّ وخيلا بأكملها مع إلهتها إيبونة*، فربّما عيب علينا اقتصارنا بين عبدة كلّ البهائم، مستأنَسها ووحشيّها، على الحمير. كذلك من يحسبنا عبدة الصّليب هو معنا في تلك العبادة سواء: لمّا تعظَّم قطعة من الخشب يُنظر إلى شكلها وإن كانت من نفس المادّة فالعبرة بالصّورة إذ هي تجسّد الرّبّ ذاته؛ وماذا يميّز حقّا عن خشبة صليب فينوس الأتّيكيّة* وكيريس* الفاروسيّة* المعروضتين بدون صورة وتدا خشنا وخشبة لامشكّلة. كلّ قطعة خشب مثبّتة في الوضع القائم بمثابة صليب؛ نحن، إن صحّ أنّا نعبد صورة، نعبد إلها كاملا غير مبتور. وقد قلنا إنّ أصل آلهتكم مشتقّ بالتّشكيل من الصّليب. د أنّكم تعبدون كذلك آلهات النّصر* في نُصُب الانتصارات والصّليب في جوف تلك النّصب. يُجلّ دين الرّومان كلّ الشّارات الحربيّة، ويقسم بالشّارات بل يقدّمها على كلّ الآلهة. كلّ المنصّات الّتي تقام عليها التّماثيل في تلك الشّارات زخارف للصّلبان؛ وأستار تلك البيارق والبنود أردية للصّلبان؛ أثني على كياستكم إذ لم ترضوا بتمجيد صلبان عارية جرداء من كلّ تزويق. في نمط من التّفكير أقرب لا شكّ إلى الإنسانيّة وأكثر احتمالا، يحسب آخرون إلهنا الشّمس؛ إن يعدّونا ربّما من قبيل الفرس، فإنّا لا نعبد شمسا مرسومة على قطعة من الكتّان، فهي ذاتها ماثلة أمامنا في قبّتها. نشأ هذا الظّنّ على الأرجح من كوننا نولّي وجوهنا قِبل المشرق للصّلاة؛ لكنّ جلّكم أنتم أيضا يتوجّهون أحيانا، بدعوى عبادة آلهة السّماء، قِبل المشرق محرّكين شفاههم. كذلك، إن كنّا نخصّص يوم الشّمس* للبهجة فإنّما نفعل ذلك لسبب بعيد تماما عن عبادة الشّمس فنحن في واد وهم في واد، أولئك الّذين يخصّصون يوم ساترنوس* للقصف، خلافا لعادة اليهود الّتي يجهلونها. لكنّ خبرا عن إلهنا ذاع مؤخّرا في هذه المدينة، فحواه أنّ مجرما مأجورا للتّخلّص من البهائم# عرض رسما كتب عليه: "إله النّصارى من جنس حمار"*. كانت له أذنا حمار، وتحمل إحدى رجليه حافرا، ويمسك كتابا ويرتدي بردة؛ فضحكنا من التّسمية والصّورة. لكن كان يحرو أن يعبد هذا الإلهَ المزدوجَ أولئك الّذين قبلوا بأرباب دُمج في رأسها الكلب بالأسد، وفي قرونها التّيس بالكبش، تيوس بالجذوع وثعابين بالأرجل، مجنّحة الأقدام والظّهور. ناقشنا آنفا هذه الأمور بإسهاب كيلا ندع شائعة عنّا تمرّ بعلمنا دون الرّدّ عليها؛ وها نحن نتّجه حاضرا إلى عرض ديننا الحقّ فنبرّئ أنفسنا تماما من كلّ الفرى.

17- حقيقة إله النّصارى

ربّنا إله واحد نحن له عابدون، هو من أنشأ بكلمته ودبّر بعنايته وقدّر بقدرته هذا الكون الرّحب بكلّ ما يحوي من عناصر وكائنات جسمانيّة وروحانيّة، وأبدعه من العدم ليكون حلية لجلاله، لذا أطلق اليونان على العالم اسم "كوسموس"*. لا تدركه الأبصار وإن تبدّى لها، ولا تبلغه الأفهام وإن تجلّى لها من خلال نعمته، ولا تطاله العقول وإن بان جلاله لألباب البشر: فهو الحقّ سبحانه؛ وإنّ ما يمكن أن يُرى ويُلمس ويُعقل هو دون الأعين الّتي تلتقطه والأيدي الّتي تلمسه والأذهان الّتي تتمثّله؛ أمّا ما هو لامتناه فلا يُدرَك إلاّ بذاته. ما يجعل الله قابلا للإدراك هو أنّه ممتنع عن الإدراك؛ هكذا تجلّيه قدرته العظيمة للبشر فهو لهم معلوم ومجهول معا؛ وهذا أسوأ جرم لأولئك الّذين يرفضون الإقرار بما لا يستطيعون جهله. أفتريدون أن نبيّنه لكم وهو جليّ في كلّ أعماله وآلائه الّتي تتعهّدنا وتحفظ بقاءنا وتسلّينا وحتّى تلك الّتي تملؤنا رهبة بل وبشهادة النّفس الّتي فينا؟ فمع احتجازها في سجن البدن وحصرها بتقاليد فاسدة، وإنهاكها باللّذّات والشّهوات، وإخضاعها لسلطان آلهة زائفة، لمّا تستفيق أخيرا من غشيتها كمن سكر أو نوم أو سقم ما وتستعيد بشيء من العسر صحّتها*، تسمّي الله باسمه المجرّد وحده، لأنّه اسمه الأوحد الحقّ الّذي يناسبه. "الله العظيم"، "الله الودود"، "الله الكريم": بهذا يلهج كلّ لسان ويستشهده ويفوّض له أمره: "الله يرى"، "على الله متّكلي"، "على الله عوضي"؛ فأيّة شهادة من النّفس المجبولة على فطرة التّوحيد*! لا تولّي وهي تقول هذا نحو الكابتول* بل نحو السّماء؛ إذ يعلم أنّ فيها عرش الله الحيّ، ومنه هو، من هناك نزلت*.

18- مدح الكتاب المقدّس

لكن لندرك بمزيد من الجلاء والرّسوخ ذاتَه ومشيئته وأحكامه، أعطانا إضافة إلى ذلك رسالاته ليمكن لمن شاء أن يبحث عنه، وإن بحث عنه أن يجده، وإن وجده أن يؤمن به، وإن آمن به أن يخدمه*. فمنذ بداية الخليقة بعث في العالمين رسلا أهّلتهم أمانتهم واستقامتهم لمعرفة الله وبيانه للنّاس، وأفاض عليهم روحه ليدْعوا إلى إله واحد، هو من أنشأ الأكوان وصنع الإنسان من صلصال، فهو برومثيوس* الحقيقيّ، ونظّم العالم مقدّرا لكلّ شيء مبتداه ومنتهاه. وأرسل كذلك آيات على جلاله الأمطارَ والنّيرانَ، وحدّد السبل لاستحقاق رضوانه، وعيّن جزاء من يجهلها ومن يخالفها ومن يستمسك بها، حتّى يحكم في نهاية الدّهر فيكافئ عباده البررة بالنّعيم الأبديّ، ويعاقب الكفرة بنار أبديّة كذلك لا يخبو لها أوار، يوم يبعث كلّ الموتى ويعيدهم نشأة أخرى ويحشرهم وازنا أعمالهم ليعيّن لكلّ أيّ الجزاءين استحقّ. نحن أيضا ضحكنا من كلّ ذلك فيما مضى؛ فنحن منكم: النّاس لا يولدون، بل يصيرون، نصارى. أولئك الّذين سمّيناهم دعاةً أنبياءٌ كُلّفوا بتبليغ الرّسالة. أقوالهم وخصالهم الّتي كانوا يدعون بها إلى الإيمان بالله محفوظة في كنوز الكتب، لكنّها كنوز غير مخفاة. لذا فإنّ بطليموس المكنيّ بفيلادلفوس*، ذلك الملك الواسع الاطّلاع على كلّ مجالات الأدب، ربّما لمنافسة بيسستراتوس* في جمع الكتب، ومن جملة الآثار الّتي استمدّت من قِدمها أو طرافتها شهرةً، وبتوجيه من ديمتروس الفاليريّ* أوثق علماء عصره الّذي كان قد استشاره، طلب من عند اليهود كتبا خاصّة بملّتهم موجودة لديهم وحدهم. فمنهم دوما بُعث الأنبياء وإليهم وجّهوا دعوتهم، باعتبارهم الشّعب اّلذي اجتباه الله بخدمته، بلا شكّ للنّعمة الّتي خصّ بها آباءه*؛ كان من ندعوهم اليوم يهودا يسمّون في الماضي عبرانيّين فكانت كتبهم وكلامهم بالعبريّة. ولئلاّ يتعذّر عليه فهمها قُدّم له اثنان وسبعون ترجمانا استنسخوا له كتب اليهود، أثنى الفيلسوف منيدموس* الضّامن لحسن التّدبّر في هذا الباب على اتّفاقهم في الرّأي؛ يؤكّد لكم ذلك أيضا أرسطايوس*. هكذا نقلت أقلامهم إلى اليونانيّة هذه الرّوائع بعد فتح مستغلقها؛ واليوم توجد مجموعة كتب بطليموس* معروضة مع الصّحف العبريّة الأصليّة في سرابيوم*. بل حتّى اليهود أنفسهم يقرؤونها هناك علنا: تلك حرّية يتمتّعون بها مقابل الجزية*، يذهب كافّتهم هناك كلّ سبت؛ من يستمعْ إليها يجدِ الله، ومن يجتهدْ لفهمها تحْدُه حتما إلى الإيمان.

19- قدم أسفار العهد العتيق

تستمدّ هذه الكتابات إذن من قدمها السّحيق مصداقيّتها؛ عندكم أنتم أيضا شبه ما في ديننا: إرساء المعتقد على النّقل عبر الأزمان. ] فالإيغال في القدم يكفل مرجعيّة تلك الكتابات؛ أوّل نبيّ موسى الّذي استهلّ بذكر أخبار الماضي: تكوين العالم وانتشار الجنس البشريّ والطّوفان الّذي ما لبث أن حلّ به عقابا لظلم أهل تلك القرون، أبان بنبوّته ومعجزاته ما حدث حتّى عصره وأحوال ما سيأتي، فعنده عرض لتسلسل الأحقاب منذ البدء وإحصاء لتاريخ البشريّة؛ ومعلوم أنّه سبق بحوالي ثلاثمائة سنة أقدم رجل عندكم، وهو دانَووس* الّذي حلّ بأرغوس*. ويتقدّم على حرب طروادة بألف سنة، وهو من ثمّ سابق حتّى على ساترنوس* نفسه؛ فحسب تاريخ ثالّوس* حيث يروي لنا حرب الأشوريّين* وصراع ساترنوس* ملك التّيتان* مع يوبتر*، يستفاد أنّ الحرب سبقت بثلاثمائة واثنتين وعشرين سنة دمار طروادة؛ بواسطة موسى أيضا أرسل الله الشّريعة الخاصّة باليهود. ومن بعده بعث رسلا تترى هم أقدم عهدا من كتاباتكم. وآخرهم سبق بقليل أو عاصر على أقلّ تقدير كتّاب حكمتكم ومشرّعيكم الأوائل. فقد عاش زكريّا* في عهد قورش* وداريوس* وفي زمانه لم يجد طاليس* أمير علماء الطّبيعيّات قولا ثابتا يجيب به كرويسوس* حين سأله في الرّبوبيّة، وقد حيّرته بالتّحقيق أقوال الأنبياء. وقد تكهّن صولون* لهذا الملك بالذّات أنّ عليه ارتقاب نهاية حياته الطّويلة، تماما كما يفعل الأنبياء. ومن هنا يمكن أن نرى أنّ تشريعاتكم وعلومكم استقت من الشّريعة والتّعاليم الإلهيّة*؛ لا بدّ أن يكون السّابق هو البذرة؛ لذا لديكم بعض الأمور المطابقة لما لدينا أو القريبة منه. اقتبستم من حكمتنا فسمّيتم حبّها فلسفة*، ومن النّبوّة فدعوتم التّظاهر بها كهانة شعريّة. هكذا كلّما وجد رجالكم العظماء شيئا، لينقلوه عمدوا إلى تشويهه؛ كذلك يحدث أن تفسد الثّمار بعد خروجها من بذرتها. سأتوقّف عند قدم النّصوص الإلهيّة من أوجه عدّة لو لم تكف للحمل على الإيمان بها سلطتها المستمدّة من قوّة حقيقتها أكثر ممّا هي من مستمدّة من عتاقتها؛ وهل من تأييد لشهادتها أقوى من تحقّقها اليوميّ في العالم أجمع، إذ يتجاوب تتابع الدّول، وخراب المدن، ودمار الأمم، وتتابع الأحقاب مع ما أنبأت به منذ آلاف السّنين. فهي تنعش أملنا الّذي يثير سخريتكم، وتقوّي إيماننا الّذي تدعونه وهما؛ وإنّ صدق السّابق ليبرّر الإيمان باللاّحق؛ فقد تنبّأت نفس الأصوات بكليهما، وأشارت إلى كليهما نفس الكتب. لأنّ ما يبدو لنا منفصلا بين ماض وآت زمان واحد في عرفها؛ وهكذا فما بقي قد ثبت لدينا لأنّها تنبّأت به مع أمور تحقّقت فعلا وكانت آنذاك غيبا. لديكم أنتم أيضا السّيبلّة* وإن كانت تسمية الوحي الحقّ من الله الحقّ اغتُصبت لتعطى لكلّ منتحلي النّبوّة؛ فعرّافاتكم انتحلن الصّفة من الحقيقة زورا تماما مثل آلهتكم.*[ هكذا إذن، كلّ القرائن والموادّ، والأصول والتّصانيف والمصادر الّتي اختطّتها أقدم الأقلام عندكم، بل والأمم العديدة والمدن الشّهيرة بتاريخها الحافل، والجليلة بتراثها المتناقل، بل وكذلك ما في جوف أقدم مخطوطاتكم الشّاهدة على أخبار الماضي، بل أقول وبدون مبالغة، حتّى آلهتكم ومعابدكم وعرّافوكم ومقدّساتكم، كلّ ذلك يتفوّق عليه في القدم مصحف نبيّ واحد يوجد محفوظا فيه كنز الدّيانة اليهوديّة بأكملها، وبالتّالي ديانتنا نحن. إن سبق أن سمعت بموسى المشار إليه فإنّه معاصر إيناخوس* الأرغوسيّ*، وسبق بحوالي أربعمائة سنة < إلاّ سبعا> دانووس* وهو لديكم أقدم الأوّلين، وسبق بحوالي ألف عام هزيمة بريام*، بل أستطيع القول بأنّه يتقدّم بخمسمائة سنة إضافيّة هوميروس*، ولديّ من أتبع في ذلك. كذلك الأنبياء الآخرون، وإن تأخّروا على موسى، فأقربهم عهدا منّا لا يدركه الأوائل من بين علمائكم ومشرّعيكم ومؤرّخيكم. ليس عرض هذه الحقائق الممكن إثباتها بالتّسلسلات التّاريخيّة المقارنة أمرا صعبا بقدر ما هو ضخم، وليس شائكا بقدر ما هو طويل بالمقابل. إذ يقتضي إثباته فحص وثائق متعدّدة والدّخول في متاهات حسابيّة، ولا بدّ من كشف المستندات الّتي خلّفتها أقدم الأمم، المصريّين والكلدانيّين والفينيقيّين. ولا بدّ من الاستشهاد بمن أمدّنا بأخبارهم من مواطنيهم، كمانثون المصريّ* وبيروصوس الكلدانيّ* وكذلك حيرام الفينيقيّ* ملك صور وكذلك تابعيهم مندسيوس البطليموسيّ* ومينندر الأفسسيّ* وديمتروس الفاليريّ* والملك يوبا* وأبيون* وثالّوس*، ويوسفوس اليهوديّ* العمدة في أخبار قدامى اليهود لانتمائه إلى ملّتهم والّذي يؤيّدهم أو يخالفهم. لا بدّ كذلك من جمع مدوّنات اليونان والتّأريخ للأحداث لكشف تسلسل الوقائع الّذي به تتّضح تواريخ الحوليّات؛ لا بدّ والحال تلك من التّنقّل عبر كتب التّاريخ والأدب لكلّ الأمم؛ والحقّ أنّا قدّمنا لكم جزءا من الإثبات لمّا عرضنا ما يمكن بناء عليه إثبات تلك القضايا. لكن من الأفضل إرجاء ذلك النّقاش مخافة التّقصير في الإثبات إن تعجّلنا أو طول الاستطراد إن أسهبنا.

20- ذكر الكتاب المقدّس لأخبار الماضي والحاضر والآتي

والآن نقدّم مقابل ذلك الإرجاء شيئا إضافيّا جلال كتبنا إن لم نثبت مصدرها الرّبّانيّ من عتاقتها وإن كان قدمها محلّ شكّ لديكم. ولا حاجة إلى البحث طويلا أو في مكان آخر؛ فما تعلّمه ماثل أمامنا، < هذا الكون وما على الإنسان أن يعلم>؛ ما تعلّمنا ماثل للعيان: العالم والأحداث ومجريات الأحوال. كلّ ما يحدث أخبرت به مسبقا؛ كلّ ما يرى عُلم من قبل بالسّماع: ابتلاع الأراضي للمدن، وازدراد البحار للجزر، وتمزيق الحروب والفتن للأمم، وصراع الدّول مع الدّول، ودمار البلدان بالمجاعات والأوبئة وشتّى أنواع الكوارث وتزايد الوفيّات، وتغيّر الأحوال فيسفل أعلاها ويعلو الأسافل، وتناقص العدل وتزايد الجور، وفتور الاهتمام بالتّقاليد الحميدة، وتحوّل الفصول والعناصر عن أداء مهامّها، واضطراب نظام الطّبيعة بعجائب وخوارق، كلّ تلك البلايا مدوّنة مقدّما؛ بينما نعاني من ويلاتها يمكننا أن نقرأها وبينما نطّلع عليها تتحقّق بالتّجربة أمام أعيننا؛ وصدق النّبوّة هو في اعتقادي الشّهادة المثلى على مصدرها الإلهيّ. لذا عندنا كذلك إيمان راسخ بالأحداث الآتية كأمور أُثبتت بلا مجال للشّكّ، فقد تمّ التّنبّؤ بها مع الّتي نعيشها يوميّا؛ ذكرتها نفس النّبوءات وسجّلتها نفس الكتب، وألهمها نفس الرّوح: الزّمن واحد بالنّسبة للنّبوّة إذ تستشرف المستقبل. أمّا عند النّاس فيميَّز في مجرى الزّمان بين آت وحاضر، ويفرَّق من ثمّة بين حاضر وماض. ففيم نخطئ أسألكم، في الإيمان كذلك بالآتي وقد تعلّمنا الإيمان بالطّورين الآخرين؟

21- توضيح فكرة ألوهيّة المسيح

لكن بما أنّا أشرنا إلى أنّ ملّتنا تدعمها أقدم نصوص اليهود وإن كانت حديثة نوعا ما إذ تعود إلى زمان تيبريوس*، كما يعلم الكثيرون ونقرّ نحن أيضا، فربّما يودّ البعض الخوض بهذا الصّدد في وضعيّتها زاعما أنّها تتستّر تحت مظلّة هذا الدّين العظيم والمرخّص بلا شكّ، لتخفي شيئا ممّا يُشتبه بها بنحو مشروع. سيما ونحن فضلا عن العمر لا نتّفق مع اليهود في تحريم الطّعام، ولا اختيار الأيّام المقدّسة، ولا السّمات المميّزة على الجسم ولا اسم مشترك كما يفترض بالتّحقيق إن كنّا نعبد نفس الإله. لكن بات اليوم معلوما حتّى للعامّة أنّ المسيح شخص حكم اليهود بصلبه فيبدو بسهولة لبعض أنّا نعبد بشرا؛ لكنّا لا نخجل بالمسيح بل يسرّنا أن نُعدّ من أتباعه ونُفتن باسمه ولا يخالف إيماننا بالله إيمانهم؛ لذا أرى عليّ أن أتحدّث بإيجاز عن ألوهة المسيح. في زمان بعيد كانت لليهود حظوة عند الله، أيّام استقامة وتقوى آبائهم الأوّلين: لذا ازدهروا كشعب كبير وأوتوا ملكا عظيما ونعمة واسعة، حتّى أنّ الله كلّمهم وربّاهم بوحيه وأمرهم بالعمل على نيل مرضاته وحذّرهم من ارتكاب ما يغضبه. لكنّ الزّهو بكرامة آبائهم دفعهم إلى الغيّ وحادوا عن سواء السّبيل إلى مسلك الكفر؛ حتّى إن لم يقرّوا هم أنفسهم بذلك فدمارهم الحاضر يثبته؛ فهم اليوم شتات مفرّقون يضربون في الأرض تائهين منفيّين عن أرضهم وسمائهم بدون ملك إنسانيّ أو ربّانيّ، ولا يُسمح لهم حتّى بوطء أرض آبائهم لزيارةٍ كما يحقّ لأجانب. لمّا كان أولئك النّذر يعظونهم، كانوا يردّدون عليهم باستمرار نفس النّبوءة: أنّ الله مجتبٍ في آخر الدّهر من كلّ أمّة وكلّ شعب وكلّ بلاد عبادا أتقى وأوفى بعهده، فمحوّل إليهم نعمة أوفى لاستعدادهم لدين أكمل. لذا أتى من بشّر الله من قبل بمقدمه لإصلاح ديانتهم وإنارتها، المسيح ابن الله؛ أُعلن عن مانح ومعلّم هذه النّعمة والدّيانة، نبراس وقائد الجنس البشريّ، ابن الله: لم يولد ليخجل من اسم الابن أو من بذرة أب. ما كان عليه أن يحمل خزي أب إلهيّ أنجبه زناً بأخته أو ابنته أو بمحصنة غريبة عنه، يحمل حراشف أو قرونا أو ريشا، أو عاشق يتحوّل إلى شذرات من التّبر كعاشق دناية*: تلك صفات بشريّة تنسبونها ليوبتر*. أمّا ابن الله، فليست له أمّ مسّها لتلده أيّ رجس؛ حتّى أمّه الظّاهريّة لم يمسسها بشر قبل حملها؛ لكن سأشرح أوّلا طبيعته، وبذلك يُفهم سرّ ميلاده. فسّرنا سابقا أنّ الله ذرأ هذا الكون كلّه بكلمته وحكمته وقدرته؛ عند حكمائكم أيضا هناك اتّفاق على اعتبار اللّوغوس*، أي الكلمة والعقل مجتمعين، منشئ الكون؛ فزينون* يرى فيه الصّانع الّذي خلق كلّ الكائنات بتدبير واتّساق؛ يسمّونه القدر والإله وروح يوبتر* والضّرورة الّتي في أصل كلّ الأشياء؛ يجمع كليانتس* كلّ هذه الصّفات في الرّوح الّذي يؤكّد أنّه يتخلّل الكون. ونحن بدورنا نحدّد للكلمة والعقل والقدرة الّتي فسّرنا أنّ الله خلق بها كلّ الكائنات جوهرا مناسبا روحيّا فيه تتضمّن الكلمة بالقول، ويمثل العقل بالتّدبير، وتحكم القدرة بالفعل*؛ ونقول إنّه صدر ككلمة عن الله وينشأ منه بهذا الكلام، فهو ابن الله، ونقول إنّه الله انطلاقا من الوحدة الجوهريّة بينهما، لأنّ الله أيضا روح. لمّا ينبعث الشّعاع من الشّمس، إن هو إلاّ جزء من الكيان الأصل؛ لكنّ الشّمس ماثلة في الشّعاع، لأنّ الشّعاع من الشّمس ولا يفرّقه عنها الجوهر بل هو امتداد لها، < كذلك فيض الرّوح عن الرّوح، والله من الله>، كتلألؤ النّور من النّور؛ الأصل المادّيّ يظلّ هو هو غير منقوص وإن اشتققت منه بالتّشكيل كثرة من العيّنات لخاصّيّته الهيولانيّة. ما انبثق من الله هو الله أيضا وابن الله: فهما واحد؛ هكذا صدر الرّوح من الرّوح والله من الله، هو آخر في الوضع لا في الطّبيعة، فهو لم ينفصل عن أصله بل فاض عنه*. ذاك الشّعاع من الله، كما بُشّر به في الماضي باستمرار*، نزل على عذراء فتشكّل في رحمها جسدا، وولد بشرا ممزوجا بعنصر الألوهة. ذاك الجسد الّذي تشكّل فيه الرّوح اغتذى وشبّ وتكلّم ونشر تعاليمه وأدّى العبادات وكان المسيح؛ تلقّوا هذه القصّة، فهي شبيهة بقصص عندكم*، وسنبيّن لكم كيفيّة إثبات حقيقة المسيح وأنّ من قدّموا عندكم قصصا منافسة صيغت على نفس المنوال أرادوا تدمير الحقيقة. كان اليهود هم أيضا يعلمون بمجيء المسيح هم الّذين تحدّث إليهم الأنبياء، بل ما زالوا حتّى اليوم ينتظرون مجيئه؛ وليس بيننا وبينهم خلاف أكبر من عدم تصديقهم بأنّه قد جاء؛ فقد أُعلن عن جيئتين له، أولاهما، وهي الّتي مرّت، في ضعة الوضع الإنسانيّ، والثّانية وهي وشيكة وتؤذن بقيام السّاعة في رفعة القدرة المتلقّاة من الآب وجلال الألوهيّة المتجلّية؛ ولأنّهم لم يدركوا الأولى، يظنّون الثّانية الّتي يرتجونها باعتبارها نصّت عليها النّبوّات بصفة أجلى وهي محطّ أملهم، هي الوحيدة. كان عقاب خطيئتهم العادل ألاّ يفقهوا السّابقة، ولو فقهوها لصدّقوا ولو صدّقوا لتبعوا الخلاص؛ وهم أنفسهم يقرؤون عندهم في الكتاب أنّهم سُلبوا العلم والفهم والبصر والسّمع. ولنظرهم إليه كمجرّد إنسان بناء على ضعة الجانب البشريّ فيه، اعتبروه ساحرا لمّا رأوا قدرته، فبكلمة يخرج الشّياطين ممّن بهم مسّ، ويعيد للكمه أبصارهم، ويبرئ البرص ويفكّ عقلة الكسيحين، بل وبكلمته يحيي الموتى، ويسخّر لخدمته العناصر، فيهدّئ الزّوابع ويمشي على الماء، مبيّنا بذلك أنّه الابن الّذي بشّر الله به قبل والّذي وُلد لخلاص الجميع، أي كلمة الله الّذي كان في البدء، الّذي هو أوّل الكائنات، والمقترن بالقدرة والعقل والمؤيَّد بالرّوح. لكنّ أكابر اليهود وأحبارهم غيظوا من تعاليمه الّتي دحضت مزاعمهم، سيما أنّ خلقا كثيرا توجّهوا إليه، حتّى أتوا به في النّهاية أمام بيلاطس البنطيّ*، والي سورية يومئذ من قبل الرّومان، وطالبوا بشدّة حتّى حصلوا منه على تسليمهم إيّاه لصلبه؛ وقد تنبّأ هو نفسه بما فعلوا؛ وما كان ذلك ليعني الكثير لولا أنّ أنبياء الماضي كانوا قد أعلنوا عنه. وحتّى وهو معلّق على الصّليب، أظهر عدّة آيات خاصّة بموته؛ فبتلقاء نفسه سلّم مع كلماته روحه، مستبقا عمل الجلاّد؛ في نفس اللّحظة احتجب ضياء النّهار والشّمسُ تتوسّط مدارها، فظنّ من لم يكن لهم علم بأنّ ذاك أيضا ممّا ذكرته النّبوءات عن المسيح أنّه كسوف؛ ولعدم فهم سببه أنكروه، وهو مع ذلك موثّق لديكم في سجلاّتكم*. بعدما أنزِل ودُفن، طوّق اليهود قبره بقوّة عسكريّة ضاربين حوله حراسة مشدّدة، مخافة أن ينقل حواريّوه جثمانه خلسة ويخدعوا الرّقباء، إذ كان قد أعلن قيامه من الموت في اليوم الثّالث. لكن في اليوم الثّالث انخسفت الأرض فجأة وانزاح الحجر الّذي كان يغلق ضريحه، فتفرّق الحرس مذعورين. ودون أن يظهر أيّ من حواريّيه، لم يجدوا في القبر شيئا سوى الأكفان. مع ذلك أشاع أكابر اليهود، الّذين كان همّهم ترويج دعوى عمل إجراميّ وصدّ الشّعب الخاضع لسلطتهم واستغلالهم عن الإيمان، أنّ تلاميذه رفعوا جثمانه؛ ذلك أنّه لم يظهر لعامّة النّاس، فما كانت الغاية أن يخلّص الكفرة من الضّلال، بل أن يوثّق بالمشقّة الإيمان المعدّ لثواب عظيم. لكنّه قضى أربعين يوما مع بعض حواريّيه في الجليل، وهي منطقة من يهوذا، يعلّمهم ما عليهم أن يعلّموا غيرهم؛ ثمّ بعد سيامتهم لنشر تعاليمه في الأرض*، رُفع إلى السّماء في ظلّة من الغمام، وهي حقيقة أثبت ممّا اعتاد روايته أمثال بروكولوس* عندكم عن رومولوس*. رفع كلّ هذه الأخبار عن المسيح بيلاطس*، الّذي صار هو نفسه نصرانيّا في سريرته، إلى تيبريوس* القيصر آنذاك؛ لكنّ القياصرة كانوا حتما سيصدّقون بالمسيح لو لم يكن القياصرة ضروريّين لهذا العالم وفتنه، أو لو أمكن أن يكون القياصرة نصارى أيضا. امتثل الحواريّون لأمر معلّمهم الرّبّانيّ منتشرين في الأرض، فذاقوا كثيرا من اضطهاد اليهود ثمّ وحشيّة نيرون* في رومية حيث بذروا الدّم النّصرانيّ بطيب خاطر لإيمانهم بالحقّّ. بيد أنّا سنبيّن لكم أنّ الّذين تعبدون أنفسهم أوفق شهود على المسيح، فإنّه لأوفى بالمقصود أن أستشهد لحملكم على تصديق النّصارى من بسببهم تحديدا لا تصدّقون النّصارى. هذه في انتظار ذلك خطّة عرضنا: نقدّم هذا التّصريح عن ملّتنا وتسميتها مع مؤسّسها؛ فلا يطلقْ أحد حولنا الشّائعات المغرضة، ولا يظنّ بنا أحد غير ما نقول، إذ لا يُعقل أن ينشر أحد أكاذيب عن دينه؛ فبزعمه عبادة إله غير الّذي يعبد ينكر الّذي يعبد ويحوّل إلى آخر تعظيمه وبتحويله عبادته يكفّ عن عبادة الّذي أنكر. نقول علانية، ونصرخ مدمَين ممزّقين تحت تعذيبكم: اللهَ نعبد بالمسيح؛ فلتعدّوه بشرا هو من به شاء الله أن يُعرف ويُعبد. أقول ردّا على اليهود، إنّهم هم أنفسهم تعلّموا عبادة الرّبّ بموسى، وعلى اليونان إنّ أرفيوس* في بيرية* وموساوس* في أثينة وميلمبوس* في أرغوس* وتروفُنيوس* في بيوتية* ربطوا النّاس بهم بطقوس مسارّة، وألاحظ كذلك لديكم أنتم المهيمنين على الأمم أنّ بمبليوس نوما* الّذي أثقل بمعتقدات فاسدة وطقوس شاقّة كاهل الرّومان كان إنسانا. قد يُفترض أنّ المسيح هو الآخر اختلق ألوهة، لا لترهيب أناس جفاة متوحّشين بكثرة من الآلهة يلزمهم التّزلّف إليها قصد تلطيف طباعهم شأن نوما*، بل لفتح عيون أناس متحضّرين وتحت تضليل مدنيّتهم بالذّات، للتّعرّف على الحقيقة*. ابحثوا إذن إن كانت ألوهيّة المسيح تلك صحيحة؛ إن كانت معرفتها < تصلح الإنسان وتدفعه إلى الخير>*، فلا بدّ إذّاك من التّخلّي عن الدّيانة الغالطة، سيما بعدما تبيّن كامل نسقها الّذي يتخفّى خلف أسماء وصور بشر، يعمل على زرع الإيمان بألوهيّتهم بتماثيل وأساطير خارقة وعرافات.

22- الشّياطين أصل بلاء النّصارى

نحن نقول فعلا بوجود جواهر روحيّة؛ وما اسمها بالجديد فالفلاسفة يعرفون الشّياطين وكان سقراط* نفسه ينتظر مشيئة شيطانه*؛ كيف لا وشيطانه فيما يقال لازمه منذ الطّفولة ليصدّه عن الخير تماما؟ كلّ الشّعراء يعرفونها، وحتّى العامّة الجهلة كثيرا ما يلجؤون إليها في العزائم. بل إنّهم يستحضرون إبليس، أمير هذه الفئة المَريدة، عندما ينفثون أذاهم وأسحارهم، كما لو كانوا يدعونه عن إحساس غريزيّ به ثابت في قرارة أنفسهم؛ كذلك لم ينف أفلاطون* الملائكة؛ فضلا عن ذلك يشهد السّحرة على وجود كلتا الطّائفتين. لكن كيف انبثقت من الملائكة زمرة الشّياطين الغويّة، ضالّة بمحض إرادتها، ملعونة من الله مع زعماء جنسها ومع أميرها الّذي ذكرنا، ذاك ما نجد تفسيره في الكتب المقدّسة. سنكتفي الآن بعرض عملها؛ ألا وإنّ عملها هو تدمير الإنسان، فمنذ البداية شرعت أراوح الشّرّ في السّعي إلى هلاك الإنسان؛ هكذا تسلّط على أجسام البشر الأسقام والآفات المضنية، وعلى أرواحهم بلايا مفاجئة ومهلكة بقوّة عجيبة؛ ويساعدها على الوصول إلى كلا عنصري طبيعة الإنسان دقّة ولطافة جوهرها العجيبة. لتلك القوى الرّوحيّة قدرات فائقة، فمن حيث هي قوى لامرئيّة ولامحسوسة تظهر في مفعولها لا في فعلها، كما تفسد الرّيح الخبيثة الثّمار والزّروع وهي بعد في زهرتها، أو تخترمها وهي في بذرتها، أو تخدشها وقد أينعت، أو ينشر هواء سَموم لسبب خفيّ أنفاسه الموبوءة. بنفس النّزعة الخفيّة لنشر الأذى، تنفث الشّياطين والأملاك كذلك أوبئة في النّفس باثّة فيها دمارها بالأهواء المسعورة والانحرافات الذّميمة والشّهوات المتفلّتة والضّلالات المتنوّعة، وأقواها ذاك الّذي يزيّن تلك الأوثان لأذهان النّاس الخاضعة لسيطرته وتضليله فيتغذّى بالأطعمة المناسبة المقدّمة لتلك الأصنام من قتام ودم. وهل من غذاء أنسب لها من صدّ الإنسان عن التّفكّر في الله الحقّ وتوجيهه إلى الشّعوذات الزّائفة؟ سأعرض كيف تنجز أعمالها العجيبة. كلّ روح مجنّح؛ كذلك هي الأملاك والشّياطين؛ لذا توجد في لحظة في أيّ مكان؛ العالم كلّه مكان واحد عندها؛ وبنفس السّهولة تعرف ما يحدث في كلّ مكان وتنبئ به؛ فتؤخذ سرعتها خطأ على أنّها ألوهة، للجهل بجوهرها؛ وهي ترغب من حين لآخر في الظّهور كفاعلة لما تنبئ به؛ وهي أحيانا صانعة الشّرور فعلا أمّا الخيرات فليست قطّ من صنعها. بل إنّها تتخطّف تارة أحكام الله إذ يلقيها أنبياؤه وتختلسها طورا وهي تُتلى جهرة؛ وإذ تأخذ من هنا بهذا النّحو مقادير الله في العالم، تقلّد الألوهيّة وتنافسها. أمّا بأيّة براعة تصوغ في أقوال العرّافين كهاناتها المبهمة بأحداث المستقبل، فيعلمه أناس ككرويسوس* أو بيرّوس*؛ بهذا النّحو في الحقيقة أنبأت عرّافة دلفي* بطبخ سلحفاة مع لحم الضّأن* ففي نفس اللّحظة كان شيطانها قد انتقل إلى ليدية*. ولها من سكنى الجوّ وجوار الأفلاك وعشرة الغيوم قدرة على معرفة ما يوشك أن يقع في السّماء فتعد مثلا سائليها بالأمطار الّتي تستشعرها قبل نزولها. وقد ينال النّاسَ نفعُها مثلا في علاج الأمراض؛ ذاك أنّها تُحدث السّقم أوّلا، ثمّ تحضر أدوية غير معروفة أو ترياقات لتحدث معجزتها، ثمّ تكفّ أذاها عن العليل، فيُظنّ أنّها شفته. يم حديثي عن المهارات أو القدرات الأخرى لأرواح الضّلالة؟ استحضار الأشباح* وحمل الماء في غربال وجرّ السّفينة بزنّار وتجديد شباب اللّحى بلمسة، كلّ ذلك ليؤلّه النّاس الأوثان ويدَعوا البحث عن الله الحقّ.

23- وهي مع ذلك خاضعة لهم

هذا وإن كان السّحرة يستحضرون الأشباح، ويبكّتون أرواح الموتى، ويُنطقون الأطفال بالعرافات*، ويصنعون الخوارق بشعوذاتهم الزّائفة، ويرسلون الرّؤى إلى الأنفس مستعينين بقدرة الأملاك والشّياطين، بل كثيرا ما أنطقوا بالكهانات الماعز والموائد، فما بالك بقوّة الشّرّ تلك لمّا تعمل بمحض إرادتها ولأغراضها الذّاتيّة مسخّرة كلّ طاقاتها بدل الاستجابة لأغراض الآخرين. لكن إن كانت الأملاك والشّياطين تصنع ما يصنع آلهتكم فأين إذن تفوّق الألوهيّة الّذي يفترض أنّه يجاوز بالتّأكيد كلّ قدرة؟ أوليس أشرف بمقام الألوهيّة افتراض أنّها هي الّتي حوّلت نفسها إلى آلهة، بصنع ما يبعث على الظّنّ بأنّها آلهة، من أنّ الآلهة تشبه الأملاك والشّياطين؟ اختلاف الأماكن هو الّذي يميّز في اعتقادي بين الطّائفتين، فتعتبرون في المعابد آلهة لا تعدّونها آلهة في مكان آخر، فيبدو ذاك الّذي يحلّق فوق المعابد متخبّطا في جنون غير الّذي يمرّ من سقوف البيوت المجاورة، وأنّ قوّة تعتسف في ذاك الّذي وُهصت خصيتاه غير المحتدمة في الّذي قطع بنفسه حنجرته؛ نتيجة ذاك الجنون واحدة، وسبب تلك الفورة المسعورة واحد.

لكنّا حتّى الآن لم نقدّم سوى أقوال، وهو ذا الآن برهان قوامه الوقائع، من خلاله سنبيّن لكم أنّ الاسمين لمسمّى واحد. أحضروا هنا، أمام قضاتكم، أحدا مسّه طائف من الجنّ؛ بأمر أيّ مسيحيّ، سيتكلّم الرّوح الّذي يتملّكه معترفا بأنّه شيطان كما هو فعلا، لا ربّ كما يُدّعى زورا. أو فليؤتَ كذلك بواحد ممّن يزعمون حلول إله بهم، ممّن يتنشّقون إلههم إذ يتشمّمون روائح المذابح، من يعالَجون من هوسهم بالتّقيّؤ، وينطقون بكهاناتهم تحت تأثير الأدخنة. هذه نزلت عليها العذراء كيلستيس* واهبة الأمطار، وذاك استقرّ فيه أسكلابيوس* الهادي إلى كلّ دواء، مانح يوم آخر للمحتضرين سوكرديوس* وطناتيوس* وأسكلابديوتوس*. إن لم تقرّ للمسيحيّ، دون أن تجرؤ على الكذب، بأنّها شياطين، فاسفحوا على عين المكان دم ذلك المسيحيّ السّفيه. فهل من برهان أسطع من هذا العمل؟ وهل من دليل أصدق من هذا الإثبات؟ تلك هي الحقيقة مجرّدةً أمام الجميع، مؤيّدة بقوّتها الذّاتيّة، ولا مجال لأدنى ريبة؛ قد تقولون إنّ ما وقع سحر أو ما شابهه من الشّعوذات لو سمحت لكم بذلك أعينكم وآذانكم. لكن بم يمكنكم أن تواجهوا الحقيقة المتجلّية عارية؟ من جهة أخرى إن كان لآلهتكم وجود حقّا، فلم تدّعي كذبا أنّها شياطين؟ أتراها تفعل ذلك استجابة لنا؟ إذن فألوهيّتكم خاضعة للنّصارى، ولا يجوز أن يعدّ إلها من يمتثل لبشر، ولعدوّه بالأخصّ فذاك أخزى. وإن كانت من ناحية أخرى شياطين أو ملائكة، فلم تردّ بالتّصرّف كآلهة في مواطن أخرى؟ فكما أنّ الّتي تعدّونها آلهة لا تحبّ أن تدعى شياطين، لو كانت بحقّ آلهة، فيقينا لن تتخلّى بذاك النّحو عن جلالها، وكذلك ما كانت تلك الّتي تعلمونها رأسا شياطين لتجرؤ على التّصرّف في مواطن أخرى كآلهة لو كانت تلك حقّا آلهة انتحلت صفتها، إذ ستخاف لا شكّ استغلال هيبة كائنات أشرف حَريّة بأن تُخشى. ما بالألوهيّة إذن تلك الّتي تزعمون، إذ لو كانت كذلك حقّا لما انتحلت صفتها الشّياطين ولا أنكرتها آلهة في اعترافها؛ ما دام الطّرفان يتّفقان في الاعتراف بأنّها ليست آلهة، أقِرّوا إذن بأنّ الطّائفتين من جنس واحد أي شياطين. ابحثوا لكم إذن عن آلهة، فالّتي توهّمتموها آلهة بتّم تعلمون أنّها شياطين؛ بفضلنا لم تكشف لكم آلهتكم نفسها فقط أنّها لا هي ولا أيّة أخرى آلهة، بل ها أنتم تعلمون كذلك من هو الإله الحقّ، وهل هو ذلك الإله الأوحد الّذي نقرّ نحن النّصارى به والّذي يجب الإيمان به وعبادته كما تنصّ عقيدة النّصارى. سيقولون أيضا: من المسيح هذا وما قصّته؟ ماذا لو كان مجرّد إنسان عاديّ أو ساحرا، ماذا لو اختلس تلاميذه حقّا جثمانه من القبر بعد موته*، ماذا لو كان الآن في العالم السّفليّ لا في السّماء من حيث سيأتي فتزلزل الأرض وتميد وسط صريخ الجميع إلاّ النّصارى، بوصفه قدرة الله وروح الله وكلمة الله وحكمة الله وابن الله وذات الله. لتضحكْ معكم شياطينكم على ما تضحكون عليه؛ ولتنفِ عودة المسيح عند قيام السّاعة ليجزي كلّ الأنفس منذ الأزل بعد ردّ الجسد إليها؛ ولتدّع أمام محكمتكم إن شاءت أنّ ذاك الحساب آيل إلى مينوس* ورادمنتوس* حسب ما يرى أفلاطون باتّفاق مع الشّعراء. ولتنكر كذلك وصمة خزيها ولعنتها الأبديّة؛ لتنف أنّها أرواح نجسة، كما يمكن إدراكه من أغذيتها، دم الذّبائح وأدخنتها العكرة وحطب المحارق المخمّ، وألسنة عرّافيها الدّنسة، لتنكر أنّها مدانة بشرورها ليوم الدّينونة مع كلّ عبدتها وكلّ أعمالها. وكلّ ما لنا عليها من سلطان مستمدّ من تسمية المسيح وتذكيرها بما ينتظرها من عذاب الله بالمسيح الدّيّان؛ فلخشيتها المسيح في الله والله في المسيح، تستسلم صاغرة لعباد الله والمسيح. بلمسة ونفخة منّا تخرج بأمرنا مكرهة مكروبة من الأجساد، واجفة من تفكّر وتمثّل النّار الّتي هي واردتها يوم القيامة وخجلى بحضوركم. صدّقوها إذ تعترف بحقيقتها أمامكم أنتم الّذين تصدّقونها لمّا تكذبكم؛ لا أحد يكذب ليعيب نفسه بل ليمجّدها؛ من يقرّون بما يسيء إليهم أقرب إلى الصّدق ممّن ينفون ما ينسب إليهم طبقا لمصلحتهم. لطالما حدت شهادات آلهتكم تلك أناسا إلى التّنصّر؛ حتّى أنّا كثيرا ما اعتقدنا في الله بالمسيح من خلال تصديقنا لها؛ إنّها تؤجّج إيماننا في كتبنا، وتعزّز ثقتنا في رجائنا. على حدّ علمي تتزلّفون إليها أيضا بدم النّصارى؛ لذا ما كانت لترضى بخسارة خدّام يتعهّدونها بمثل تفانيكم، كيلا تطردوها إن تنصّرتم، لو أمكنها الكذب وهي تحت سيطرة نصرانيّ يريد إثبات الحقيقة لكم.

24- التّوحيد دين الفطرة، وأقرب إلى العقل من الشّرك

اعترافها الكامل ذاك بأنّها ليست آلهة، وأنّ لا إله إلاّ الله الواحد الّذي نحن عباده كافٍ تماما لردّ تهمة انتهاكنا الدّين الرّومانيّ وبالأخصّ العموميّ؛ فبثبوت زيف ألوهيّتها ثبت زيف دينكم؛ وإن بان زيف دينكم لانتفاء آلهتكم، انتفت عنّا تهمة انتهاك الدّين. بالعكس سيرتدّ التّشنيع إليكم، أنتم الّذين بعبادتكم الباطل وصدوفكم عن الدّين الحقّ لله الحقّ، بل وفوق ذلك اضطهاده، تقترفون حقّا جرم الكفر الحقيقيّ. لو افترضنا الآن مجاراة لكم أنّها آلهة، ألا تسلّمون كما يرى عموم النّاس بوجود إله أعلى مقاما وأعظم قدرة، هو بمثابة ملك الكون كامل الجلال؛ بهذا النّحو ينصّب أغلب النّاس إلها أعلى، يريدون أن تكون السّلطة العليا والهيمنة لواحد وإن تقاسم أرباب متفرّقون مهامّ الألوهة، كما وصف أفلاطون* يوبتر* الأعظم في السّماء يحفّ به حشد الآلهة والشّياطين؛ لذا يجب إجلال وكلائه وولاته وأعوانه بالمثل. أيّ جرم مع ذلك يقترف من يخلص لقيصر عمله ويضع فيه كلّ أمله ولا يقرّ بالألوهيّة كما باسم الامبراطور لأيّ أمير، والحال أنّكم تحكمون بالإعدام على من يلفظ لقب قيصر أو يسمعه يقال لغير قيصر. ليعبد هذا الله، وذاك يوبتر*، وليرفع الآخر يديه إلى السّماء متوسّلا، وليمدّ الآخر باليدين نحو مذبح إلهة الذّمّة*، وليعُدّ هذا السّحب إذ يرفع رأسه متضرّعا، إن كان هذا رأيكم، وذاك تساقيف المعابد، ولينذر لربّه ذاك حياته والآخر تيسا. والآن احترسوا أن يصبّ في خانة الكفر إلغاؤكم حرّيّة المعتقد ومنعكم اختيار كلٍّ إلهَه، بحيث لا يحقّ لي أن أعبد من أشاء، بل يُفرض عليّ أن أعبد من لا أشاء؛ لا أحد، ولو كان إنسانا، يحبّ أن يُعبد كرها. حتّى المصريّون أحرار في عبادة الطّيور والبهائم وفق ديانتهم السّخيفة، ويحكمون بالإعدام على من يقتل أيّا منها.

لكلّ بلاد ولكلّ مدينة إلهها؛ فلسورية عشتار* ولبلاد العرب ذو الشّرى* وللنّوريقيّين* بيلينوس* ولإفريقية كيلستيس* ولموريتانية* أماليكها. لقد أشرت، على ما أظنّ، إلى أقاليم رومانيّة ومع ذلك ليس لها آلهة الرّومان، بل آلهتها الخاصّة فهي لا تُعبد في روميّة أكثر من تلك الّتي يقرَّر تعظيمها في المدن الإيطاليّة الحرّة بمباركة سلطاتها البلديّة: فللكاسينيّين* دلونتيوس* وللنّارنيّين* ويسِديانوس* وللعسقُلونيّين* أنخارية* وللوُلسينيّين* نُرتية* وللأكُرِكُلانيّين* ولنتية* وللسُترينيّين* هُستية* وللفالسكيّين* إلهتهم الّتي لقّبوها بيونون* إكراما لأبيهم كورِس*. لكنّا وحدنا ممنوعون من اتّباع ديننا الخاصّ؛ فنحن نؤذي الرّومان ولا نعَدّ رومانا لأنّا لا نعبد إله الرّومان. حسنٌ أنّ إلهنا ربّ الجميع، وأنّا جميعا عبيده شئنا أم أبينا؛ لكن تحقّ في شرعكم عبادة أيّ إله سوى الله الحقّ، كما لو لم يكن إلهنا إله الجميع*.

25- نفي دور دين الرّومان في بناء امبراطوريّتهم

يبدو لي أنّي أعطيت أدلّة كافية عن الألوهة الزّائفة والحقيقيّة، لمّا بيّنت كيف يستند استدلالي، لا إلى الجدل والمحاجّة فقط، بل إلى شهادات من تعدّونهم آلهة بالذّات، فلا حاجة إلى مزيد من النّقاش حول هذا الموضوع.

لكن بما أنّه قد احتُجّ في هذا الباب بسلطة اسم الرّومان، لن أتجنّب الخوض في جدال يجرّني إليه زعم القائلين بأنّ الرّومان رقّاهم إلى مرتبتهم الرّفيعة كسادة الأرض كلّها تديّنهم الورع، وأنّها آلهة لا شكّ تلك الّتي يزدهر دون سواهم من يعبدونها دون سواهم. لا شكّ إذن أنّ الآلهة هي الّتي خصّت اسم الرّومان بذلك الشّرف مكافأة لهم؛ وسّع الامبراطوريّة الرّومانيّة إذن استركولوس* وموتونوس* ولارنتينة*؛ إذ لا إخال آلهة أجنبيّة أرادت أن تمنح بركتها وتأييدها لأغراب بدلا من شعبها وأعطت لغزاة نزحوا من وراء البحر وطنها الّذي فيه ولدت وترعرعت وذاع صيتها ودفنت. ربّما أحبّت قُبيلة* رومية كذكرى من شعب طروادة، أمّتها الّتي حمتها بهذا النّحو لا شكّ من أسلحة الآخيّين*، وتدبّرت لمجيء من سيثأرون لها ويُخضعون لسلطانهم بلاد اليونان قاهرة فريجية*. لذا قدّمت حتّى في عصرنا دليلا ساطعا على جلالها بعدما نُقلت إلى رومية، إثر وفاة مرقس أورليوس* في سرميوم* في اليوم السّادس عشر قبل غرّة نيسان* لمّا أقام كبير كهنتها في اليوم التّاسع قبل غرّة نيسان الشّعائر التّقليديّة من تقديم الدّم النّجس والخصي والخضد، طلبا للشّفاء للامبراطور الّذي كان قد قضى نحبه. فيا للمراسيل البطيئين والمخبرين الخاملين الّذين بذنبهم لم تعلم قُبيلة* بموت الامبراطور قبل حتّى لا يسخر النّصارى من إلهة مثلها. وما كان يوبتر* ليسمح بأن يطأ الرّومان كريت* مرتع طفولته، ناسيا كهف جبل إيدة* حيث ترعرع وصنوج كهنة أمّه النّحاسيّة، وشذا مرضعته*! أليس مقامه الأعلى بين كلّ الآلهة في مجمع الكابيتول*، ويفترَض من ثمّة أن تهيمن على العلم أجمع الأرض الّتي تضمّ رفاته؟ أوكانت يونون* ترضى بأن يدمّر ذرّيّة إينياس* الحاضرة البونيقيّة* الّتي أحبّتها بعد ساموس* أكثر من كلّ المدن؟ فعلى حدّ علمي "هنا كانت أسلحتها وهنا كانت مركبتها، وتلك المملكة باركتها الرّبّة وأرادت أن يمتدّ سلطانها على كلّ الأمم إن شاءت الأقدار". فيا لهوان زوجة يوبتر* العظيم وأخته كيف عجزت أمام مشيئة الأقدار! ولا غرو "فيوبتر نفسه خاضع للقدر"*. مع ذلك لم يجلّ الرّومان الأقدار الّتي منحتهم قرطاج رغم رغبة وقرار يونون* إجلالهم تلك البغيّ الذّئبة لارنتينة*. من الثّابت أنّ عديدا من آلهتكم كانوا ملوكا، وإن كان بمقدورهم بالتّالي أن يؤتوا المُلك من يشاؤون فممّن استمدّوا هم أنفسهم ملكهم يوم كانوا يحكمون بين النّاس؟ من كان ساترنوس* أو يوبتر* يعبدان؟ إلها من قبيل استركولوس* على الأرجح؛ لكن هاهم الرّومان من بعد سجّلوهما ضمن قائمة الآلهة الرّسميّة*. كذلك إن كان بعض أولئك الآلهة لم يحكموا سابقا، فقد كانوا حتما محكومين من قِبل آخرين لم يبدؤوا بعد في عبادتهم إذ لم يكونوا يعدّونهم آلهة بعد؛ إذن فقد كان منح الملك من صلاحيّات غيرهم، إذ سبق وجود حكّام بمدّة طويلة تسجيلهم ضمن الآلهة. < ثمّ لنسلّم أنّه بعد توسّع أحوال الرّومان تطوّر الدّين>؛ لكن ما أسخف أن يُنسب الفضل في رفعة شأن الرّومان إلى تديّنهم؛ والحال أنّ الدّين ازدهر عندهم بعد نشأة الامبراطوريّة أو السّيطرةعلى العالم؛ فلئن أنشأ نوما* تصوّرا خرافيّا للكون، ما كانت تلك الدّيانة تتضمّن بعد أصناما ولا معابد عند الرّومان. كانت ديانة ساذجة تشتمل على طقوس بسيطة بلا مجامع للآلهة تناطح السّماء، كلّ ما هنالك مذابح وقتيّة قوامها بضع مدرات معشبة وأقداح أو أوان من خزف ساموس* لا تفوح منها أيّة روائح ولا أثر لأيّ إله قطّ؛ فلم يكن الصّنّاع اليونان والتّسكان بعد قد غمروا رومية بالتّماثيل الّتي سخّروا في إبداعها خيالهم ومهاراتهم؛ لم يكن الرّومان ديّنين إذن قبل أن يصيروا عظاما، وبالتّالي لم يصيروا عظاما بسبب تديّنهم. بل كيف يجوز الزّعم أنّهم صاروا عظاما بسبب دينهم هم الّذين أتتْ عظمتهم من ضعف تديّنهم؟ فإنّما يُطلب كلّ مُلك وكلّ نفوذ بالحروب، ويوسَّع بالانتصارات، إن لم يخطئ ظنّي. فضلا عن ذلك تقوم الحروب والانتصارات على غزو المدن وتدميرها، ولا يتمّ ذلك بدون إيذاء الآلهة، فنفس الدّمار يحلّ بالأسوار والمعابد، ونفس المجازر تبيد المواطنين والكهنة، والنّهب يطال كلّ الثّروات لا فرق بين دينيّة ودنيويّة. لقد استباح الرّومان من حرمات الآلهة بقدر ما أقاموا من نُصب الظّفر، وحقّقوا من الانتصارات على الآلهة بقدر ما حقّقوا منها على الأمم، وسلبوا من الغنائم بقدر ما سبوا من تماثيل الآلهة الّتي لا تزال موجودة. هي إذن ترضى بأن يعبدها أعداؤها، وتهب ذاك "الملك اللامحدود*" لمن كان أوْلى أن تعاقب اعتداءهم لا أن تتملّقهم. لكن مع من لا يحسّون تظلّ الإساءة بلا عقاب والعبادة بلا نفع. حقّا، لا يمكن القول إذن بأنّ الفضل يعود إلى الدّين في بسط نفوذ قوم توسّعوا بانتهاك الدّين أو انتهكوه بتوسّعهم كما أشرنا، كذلك ما كان من دُمجت دولهم في الامبراطوريّة الرّومانيّة لمّا أضاعوا مُلكهم بلا أديان.

26- الله هو واهب الملك

تبيّنوا إذن إن لم يكن واهب الملك بالأحرى ذاك الّذي له مُلك الأرض المحكومة والإنسان الّذي يحكمها، إن لم يكن مدبّر تعاقب الدّول على الأرض ومداول الأيّام بين النّاس ذاك الّذي كان قبل أن يكون أيّ زمان، وجعل الدّنيا جسدا للزّمان، إن لم يكن باسط الممالك وقابضها ذاك الّذي كان الجنس البشريّ خاضعا لحكمه يوم لم تكن توجد مدن وممالك. لم تخطئون؟ لقد وُجدت رومية بغاباتها قبل آلهتها وملكت قبل أن تشيد بنيان مجمع آلهتها المنيف. ومَلك قبل كهنتها البابليّون، وقبل مجلس الخمسة عشر* الميديّون* وقبل السّاليّين* المصريّون، وقبل كهنة لوبركوس* الأشوريّون وقبل كاهنات وستة* محاربات الأمازون*. ثمّ لو كانت أديان الرّومان هي الّتي أعطتهم الملك لما ملكت قبلهم مزدرية كلّ تلك الآلهة يهوذا الّتي أبديتم يوما إجلالكم لإلهها بتقديم ذبائح ولهيكلها بإهداء عطايا، ولشعبها بعقد اتّفاقيّات وما كنتم لتبسطوا عليه نفوذكم أبدا لو لم يجرم في الأزمنة الأخيرة ضدّ المسيح.

27- عودة إلى التّنديد بالشّياطين

يكفينا ردّا على تهمة التّعدّي على حرمة الدّين والآلهة أنّا لا نُعَدّ أهنّا ما بيّنّا بطلانه أصلا؛ من ثمّ فلمّا نُدعى إلى تقديم الذّبائح لآلهتكم نرفض استجابة لضمائرنا وعلمنا اليقينيّ بمن تصل إليهم هذه العبادات تحت تأليه تماثيلَ سخيفٍ وتعظيم أسماءٍ بشريّة. على أنّ البعض يرون في موقفنا جنونا، فبينما يمكننا تقديم الذّبائح بمحضركم والانصراف بسلام مع الاحتفاظ بعقيدتنا في قرارة ضمائرنا، نؤثر العناد على سلامتنا. تشيرون علينا، كما أرى، بمداجاتكم، لكنّا نعلم من يقف وراء مقترحاتكم ويثير كلّ هذه الفتنة والبلبلة، وكيف يسعى جاهدا، تارة بنصائحه الماكرة وتارة بأخذنا بالبأساء، إلى زعزعة ثباتنا. إنّه بدون شكّ ذاك الرّوح الشّيطانيّ، عدوّنا بسبب سقوطه وحاسدنا على نعمة الله، الّذي يوغر علينا صدوركم موسوسا في الخفاء فيثير ضدّنا أذهانكم ويدفعكم إلى كلّ ما ذكرنا في بداية خطابنا، إلى الانحراف في حكمكم والظّلم في عنتكم. فعلى الرّغم من خضوع قوّة الشّياطين وما شابهها من الأرواح، تخلط أحيانا، شأن عبد السّوء، بالخوف التّمرّد وترغب في الإيقاع بمن تخشاهم فيما عدا ذلك؛ فالخوف أيضا ينشئ الكراهية. ثمّ إنّها كذلك، بحكم وضعها اليائس لإدانتها مسبقا، تجد في انتظار وقوع العقاب بها عزاء في الاستمتاع بمكرها البغيض؛ مع ذلك كلّما وقعت في قبضتنا تخضع صاغرة وترضى بهوانها وتمتثل عن قريب لمن تحاربهم من بعيد. ومثل المقاومين والمتمرّدين في مشاغل السّخرة أو السّجون أو المناجم أو ما شابهها من أنواع الحبس الجزائيّ تراها تتنطّع ضدّنا وهي تحت نفوذنا وتعلم يقينا أنّ ذلك لا يزيدها إلاّ ثبورا. فنتصدّى لها مضطرّين تصدّي النّدّ للنّدّ وندفع هجماتها بالتّمسّك بما تحاربنا بسببه ولا يكون نصرنا أتمّ ولا أسطع ممّا يكون حين نُدان على تمسّكنا بإيماننا.

28- استهتار الرّومان بآلهتهم، وتقديمهم السّلطة القائمة عليها

لكن لمّا كان يبدو ظلما صارخا إرغام مواطنين أحرار على تقديم ذبائح، إذ يوصى بأن تؤدّي النّفس ذلك كبقيّة الطّاعات مختارة، سيبدو لا شكّ خطلا أن يكره أحد غيره على تعظيم آلهة يفترض أن يسترضيها بمحض إرادته ومن تلقاء نفسه، فيصادر بهذا الإكراه حقّه وحرّيّته في أن يقول: "لا رغبة لي في مرضاة يوبتر* وأنت من تكون؟ أنا راض بأن يغضب عليّ يانوس* ويقابلني بأيّ من وجهيه شاء لكن أنت ما شأنك؟" نفس تلك الأرواح كوّنت في أذهانكم فكرة إجبارنا على تقديم الذّبائح من أجل سلامة الامبراطور، وضرورة إجبارنا مفروضة عليكم كلزوم الاستشهاد علينا. يصل بنا هذا إلى ثاني بنود لائحة اتّهامنا، القدح في الذّات الامبراطوريّة المعظّمة، علما بأنّكم تُبدون تجاه قيصر خوفا أكبر ورهبة أحرّ من يوبتر* ربّ الأولمب* نفسه؛ وإنّكم في ذلك لعلى حقّ لو تعلمون؛ إذ من من الأحياء لا يفوق قدرةً أيّا من الأموات؟ بيد أنّكم لا تفعلون ذلك بوحي العقل بقدر ما تفعلونه مخافة قوّة ذات حضور فعليّ. في هذا الباب أيضا، ثبتت عليكم تهمة الاستهتار بآلهتكم فأنتم أشدّ خشية لسلطان البشر من سلطانها، ثمّ إنّكم أسرع إلى الحنث بقسمكم بها مجتمعة منكم إليه إذا حلفتم بربّ قيصر الحامي* بمفرده.

29- الآلهة الوثنيّة هي الّتي تحتاج إلى الإنسان لا العكس

ليثبت أوّلا أنّ تلك الأوثان الّتي تقدَّم لها الذّبائح قادرة على منح السّلامة للأباطرة أو لأيّ إنسان فتدينونا إذّاك بجرم التّعدّي على الجلالة، أنّ الأملاك والشّياطين، تلك الجواهر الرّوحيّة الخبيثة، تصنع أيّ نفع، إن كانت هي الهلكى تحفظ، أو كانت هي المعدّة للعذاب تنقذ، إن كانت هي الميّتة كما تعلمون في قرارة ضمائركم تحمي الأحياء. لو كانت تفعل لحمتْ أوّلا تماثيلها وصورها ومعابدها الّتي يحافظ على أمنها في رأيي جند قيصر المتناوبون على حراستها، بل ما إخال موادّها إلاّ أتت من مناجم ومحاجر قيصر، ومعابدها كلّها يتوقّف بقاؤها على مشيئة قيصر. أخيرا خبرت آلهة كثيرة سخط قيصر؛ ويؤيّد قولي أنّه لا يفوته أيضا إن منحها رضاه أن يخصّها بشيء من حظوته وإنعامه؛ فكيف يكون لها هي الخاضعة لسلطان قيصر بل التّابعة له كلّيّا أدنى سلطان على سلامة قيصر، فتستطيع، كما تتوهّمون، أن تحفظها، هي المَدينة بسلامتها لقيصر بالأحرى؟ نحن إذن، على ما تقولون، نرتكب جريمة المسّ بجلالة أباطرتنا لأنّا لا نقرّ بخضوعهم لأشياء هي ملك لهم، لأنّا لا نأخذ مأخذ الهزل مسألة سلامتهم حتّى نحسبها في أيدٍ ثُبّتتْ بالرّصاص. لكنّكم أنتم الدّيّنين الّذين تنشدونها حيث لا توجد، تطلبونها ممّن لا يستطيع منحها، تاركين من هي بيده، بل فوق ذلك تضطهدون من يعلمون ممّن يلتمسونها، ويستطيعون كذلك نيلها إذ يعرفون كيف يطلبونها.

30- ردّ على تهمة القدح في الذّات الامبراطوريّة: النّصارى يجلّون قيصر داعين له الله لا الأوثان

نحن فعلا نصلّي من أجل سلامة أباطرتنا لله السّرمديّ، الله الحقّ، الله الحيّ الّذي يؤثر الأباطرة أنفسهم رضاه على رضى كلّ ما سواه، فهم يعلمون من وهبهم المُلك، ويعلمون من وهبهم النّفس الّتي هم بها بشر. يدركون أنّه الإله الواحد الّذي هم تحت سلطانه وحده، والّذي يأتون بعده في المحلّ الثّاني مباشرة، قبل وفوق كلّ آلهتكم؛ كيف لا وهم فوق كلّ البشر الأحياء الّذين يتفوّقون لا شكّ على الأموات؟ يتفكّرون في مدى امتداد سلطانهم فيدركون عظمة الله الّذي لا يستطيعون شيئا ضدّه، ويعلمون أنّ لا حول لهم ولا قوّة إلاّ به؛ وإلاّ فليحارب الامبراطور السّماء وليجرّها في موكب نصره أسيرة، وليبعث إليها عسسا، وليفرض عليها الجِزى*: قطعاً لا يستطيع. فإنّما هو عظيم لأنّه دون السّماء مقاما؛ إن هو إلاّ بعض مُلك من له السّماء وكلّ الخلائق. به هو صار امبراطورا وبه هو استوى بشرا قبل أن يكون امبراطورا؛ منه استمدّ سلطانه ومنه استمدّ الرّوح. إليه نبتهل نحن النّصارى، مادّين أيدينا لأنّها بريئة من الآثام، حاسرين رؤوسنا لأنّنا لم نرتكب ما يخجلنا أن يراه، بدون وسيط لأنّا نصلّي من أعماق قلوبنا، داعينه دون انقطاع أن يمنح كلّ أباطرتنا حياة طويلة ومُلكا مستقرّا وقصرا آمنا وجيشا مظفّرا ومجلسا وفيّا وشعبا صادق الولاء وعالما تسوده الدّعة، باختصار كلّ ما يتمنّاه أيّ إنسان أو قيصر. لا يمكنني أن أطلب كلّ ذلك من غير الّذي أعلم أنّه يجيب دعائي، فهو وحده من يهبه، وأنا الجدير بالحصول عليه بصفتي عبده الّذي وحدي أعظّمه، وأستشهد نصرة لدينه، وأقدّم له ذبيحة سمينة كبيرة كما طلب: صلاة مرفوعة من جسم عفّ ونفس نقيّة وقلب سليم، لا حبيبات من البخور مقدار وقيّة أو أدنى، ودميعات من صمغ بلاد العرب، لا قطيرات من الخمر ولا دم ثور هزيل شبه نافق، وفوق كلّ تلك الأرجاس ضميرا نجسا؛ فواعجبا من كهنتكم الأراذل لمّا يعاينون القرابين لتزكيتها، لِم يفحصون أحشاء الأضاحي بدلا من قلوب المضحّين أنفسهم! فلتمزّقنا أظافركم* ونحن ضارعون إلى الله، ولتعلّقونا على الصّلبان، ولتلفح النّيران جلودنا، ولتقطع رقابنا سيوفكم، ولتنقضّ علينا وحوشكم: فشيمة النّصرانيّ المصلّي لربّه الاستعداد لكلّ تعذيب؛ فاصنعوا ما شئتم أيّها الولاة الأفاضل: أزهقوا روحا تدعو الله من أجل الامبراطور؛ ستكون الجريمة حيث توجد الحقيقة والتّفاني لله.

31- وفق تعاليم دينهم الّذي يأمر بطاعة أولي الأمر والدّعاء لهم بالصّلاح

قد يظَنّ أنّا الآن نتملّق الامبراطور وندعو له رياء لتفادي بأسكم؛ هذا الخداع يفيد بالتّأكيد بما أنّكم تقبلون إعطاءنا فرصة لإثبات ما نقول؛ فانظر يا من تحسب سلامة قيصر لا تعنينا إلى أقوال الله، إلى كتبنا الّتي لا نخفيها، والّتي وضعتْها صدف عديدة بين أيدي غيرنا. ستعلم منها أنّا أُمرنا بأوفى وأوفر المحبّة، ودعاء الله حتّى من أجل أعدائنا وطلب نِعمه حتّى لمضطهدينا؛ ومن أكثر عداوة واضطهادا للنّصارى ممّن نتَّهم بالمسّ من جلالتهم؟ بل إنّ كتابنا يقول بالنّصّ البيّن الصّريح: "صلّوا من أجل الملوك وكلّ ذي منصب، لتقضوا حياة مطمئنّة ذات دعة"*؛ ذلك أنّ الامبراطوريّة إذا ارتجّت في جزء منها تزعزعت معه أعضاؤها الأخرى ورغم أنّا غرباء عن القلاقل سنكون نحن أيضا معرّضين بوجه ما للحدث.

32- دوام الامبراطوريّة يؤخّر نهاية العالم وأهوالها

هناك دافع قويّ آخر لنصلّي من أجل أباطرتنا، بل كذلك من أجل كلّ موقع في الامبراطوريّة ومن أجل الشّؤون الرّومانيّة، هو علمنا بأنّ الانهيار العنيف الموشك أن يحلّ بجميع الأرض، ونهاية العالم المنذرة بخطوب رهيبة تؤخّرهما المهلة المتمثّلة في الامبراطوريّة الرّومانيّة؛ لذلك لا نحبّ أن نعيش تلك الويلات، وإذ ندعو لتأجيلها، نعمل على إدامة ملك الرّومان. بل ونقسم، لا بآلهة القياصرة الحامية بل بحياتهم فهي لدينا أعظم من كلّ تلك الآلهة؛ أوَتجهلون أنّ تلك الآلهة الخاصّة تدعى شياطين وجِنّة؟ نجلّ في الأباطرة حكم الله الّذي فضّلهم على العالمين. ونعلم أنّ فيهم ما أراده الله ولذا نريد بقاء ما أراده الله، وذلك عندنا ميثاق غليظ. أمّا الشّياطين، أعني آلهتهم الخاصّة، فقد اعتدنا دعوتها إلى الخروج من النّاس لا القسم* بها فهو يعني إسناد شرف الألوهة.

33- قيصر يستمدّ ملكه من الله، لكنّهم يرفضون تأليهه

لكن لِم الإطالة حول ما يكنّ النّصارى من تعظيم وبرّ للامبراطور الّذي يجب أن نُجلّه لأنّ الله اختاره لنا، بل أقول بحقّ: هو قيصرنا نحن أكثر من سوانا، فإلهنا هو الّذي أقامه. لذا أعمل أكثر من أجل سلامته بصفته قيصري، لا فقط بالتماسها ممّن بيده أن يمنحها، أو طلبها بصفتي جديرا بنيلها، بل كذلك لأنّي بجعلي جلال الامبراطور دون جلال الله، أكِله بحظّ أوفى لرعاية الله الّذي أُخضعه له وحده؛ لكنّي أخضعه لمن لا أجعله له سميّا. كلاّ لن أقول إنّ الامبراطور إله، سواء لأنّي لا أعرف الكذب، أو لأنّي لا أجرؤ على الاستهزاء به، أو لأنّه هو نفسه لا يحبّ أن يدعى إلها. ما دام إنسانا، فمن صالحه أن يخفض لله جناح الذّلّ؛ كفاه مجدا أن يدعى امبراطورا؛ فإنّه لقب عظيم منحه الله له؛ ومن يزعمه إلها ينف أنّه امبراطور فما لم يكن إنسانا لا يكون امبراطورا. فليذكَََّر إذ يعتلي مركبته الفاخرة محتفلا بالنّصر بأنّه بشر، ولْيُهبْ به من خلف ظهره: "انظر وراءك وتذكّر أنّك بشر"؛ وإنّه ليزيد سروره أن يسطع مجده إلى درجة لزوم تذكيره ببشريّته؛ ويُنقص قدره أن يدعى إذّاك إلها لأنّ ذلك القول غير صادق؛ فما أعظم من يجب أن يهاب به ألاّ يعُدّ نفسه إلها.

34- يرفضون مخاطبته بما يوحي بألوهته

لم يكن أغسطس* مؤسّس الامبراطوريّة نفسه يحبّ أبدا أن يدعى مولاي*، فذاك أيضا لقب لله، لا ضير عندي من أن أقول إنّ الامبراطور مولاي، لكن بالمعنى المتداول، وبشرط ألاّ أرغَم على القول بأنّه مولى بمثابة إله؛ أنا في الحقيقة إنسان حرّ إزاءه: ومولاي واحد، هو الله القدير الأبديّ، وهو مولاه أيضا. كيف لمن هو أب الوطن أن يكون مولاه؟ كلاّ بل البرّ أعذب من السّلطان تسمية؛ لذا نتحدّث عن آباء لا أرباب الأسرة. وهيهات أن يدعى الامبراطور إلها فذاك ما لا يمكن تصديقه من تملّق لا مخز فقط، بل كذلك بالغ الضّرر. أرأيتَ إن كان لك امبراطور فدعوت بهذه الصّفة غيره، ألا ترتكب في جنَب صاحبها الحقيقيّ إساءة كبرى لا تغتفر، يحرو حتّى بمن تدعوه بها أن يخشى مغبّتها؟ أخلصْ لله عبادتك إن شئتَ أن يرعى الامبراطورَ؛ كُفّ عن الاعتقاد في إله سواه، ولا تسمِّ إلها من هو بحاجة إلى الله. إن لم يستح المتملّق من كذبه بإطلاق لقب الألوهة على إنسان فليخفْ على الأقلّ سوء عقباه؛ فإنّ تسمية قيصر بالإله قبل طقوس التّأليه* مجلبة للشّؤم. < واعلم أنّك تريد وتجلب السّوء للامبراطور إذ تدعوه إلها في حياته، والحال أنّه لا ينال هذا الاسم إلاّ بعد موته.>

35- لا يشاركون في الاحتفالات المقامة له لاشتمالها على المنكر والنّفاق

النّصارى إذن أعداء الوطن لأنّهم لا ينسبون للأباطرة، قولا بأفواههم، أمجادا باطلة وكاذبة وآثمة، ولأنّهم أناس صادقو الولاء يقيمون احتفالاتهم لهم في سرائرهم لا بمظاهر الاستهتار. إجلال عظيم حقّا أن تُحضروا مواقد ومتّكآت في ساحات المدينة، وتقصفوا في الطّريق العامّ، وتحوّلوا المدينة إلى حانة وتضمّخوا الأرض بالخمر وتتسابقوا زرافات إلى كلّ الإساءات والقبائح والشّهوات الخليعة! أيكون التّعبير عن الفرح العامّ بالخزي العامّ؟ أيليق بأعياد الأباطرة ما لا يليق ببقيّة الأيّام؟ أيُعقل ممّن يلتزمون بالنّظام احتراما لقيصر أن يتحلّلوا منه حبّا لقيصر، ويصير تفسّخ الأخلاق برّا، والخلاعة ولاء؟ ما أحقّنا بالإدانة! فعلا لِم نقيم الأفراح وندعو للقياصرة بعفّة ورزانة واستقامة؟ لم لا نظلّل في يوم الفرحة أبوابنا بالغار ونُبهت بفوانيسنا ضوء النّهار؟ لائق فعلا أن تُلبس بيتك، كما يقتضي جلال ذاك الاحتفال، ثوب مبغى جديد. مع ذلك، بخصوص هذا التّقديس لصنف الألوهة الثّاني، الّذي تتّهموننا نحن النّصارى بشأنه بانتهاك مقدّسات ثان بامتناعنا عن مشاركتكم في الأعياد القيصريّة بنحو أملاه عليكم نداء الشّهوة لا العقل الرّصين، ولا ترضاه الاستقامة ولا التّقوى ولا اللّياقة، أودّ إظهار حقيقتكم ومصداقيّة ولائكم، ليُرى هنا أيضا إن لم يكن ربّما شرّا من النّصارى من يرفضون اعتبارنا رومانا ويعدّوننا أعداء للحكّام الرّومان. أستشهد مواطني رومية أنفسهم، أشرافهم وشعبهم أصيل رباها السّبع، إن كانت اللّغة الرّومانيّة تُعفي أيّا من قياصرتها؛ يشهد بذلك نهر التّيبر* ومدارس مصارعة الوحوش. لو جعلت الطّبيعة صدورنا من مادّة شفّافة تري مكنون قلوبنا، لعلمنا من منكم لا يُظهر فؤادُه مرسوماً فيه مشهدَ قيصر تلو آخر يشرف على توزيع العطايا احتفالا بسلطته الجديدة، حتّى إن كان المعنيّون في تلك السّاعة يهتفون: "أطال يوبتر* عمرك من سني أعمارنا"؛ ذاك كلام لا يعرف المسيحيّ قوله ولا كذلك تمنّي مجيء قيصر جديد. قد تقول: "أولئك عوامّ"؛ هم فعلا عوامّ لكنّهم رومان وما من مشهّرين بالنّصارى أضرى من العوامّ. فالفئات الأخرى أصدق ولاء بقدر نفوذها؛ لا عِداء من مجلس الشّيوخ ولا فئة الفرسان ولا الجيش ولا حتّى البلاط. من أين أتى أضراب قسّيوس* ونيقر* وألبينوس*؟ من أين هم الّذين هاجموا قيصر بين شجيرتي غار*؟ من أين هم الّذين يمارسون الرّياضات ليشدّوا خناقه؟ من أين هم الّذين يقتحمون قصر الامبراطور بجسارة أكثر من سيجريوس* وبرثينيوس* ولفيفهم؟ من الرّومان إن لم يكذب ظنّي أي غير النّصارى. وما انفكّ كلّ أولئك حتّى انفجارِ عنفهم الغادر يقيمون الطّقوس لسلامة الامبراطور ويقسمون بإلهه الحامي*، بعض بالخارج وبعض بالدّاخل، وبالطّبع يسمّون النّصارى أعداء الدّولة. كنّ من يفتضح أمرهم يوميّا كشركاء في هذه الأعمال الإجراميّة أو مصفّقين لها، لقاطة القتلة المتبقّين بعد القطاف، يتفنّنون في تزيين أبوابهم بأغصان الغار الخضِرة المورقة، وملء ردهاتهم بأدخنة المصابيح العالية المتلألئة، ويتقاسمون ساحة المدينة لنصب سُرُر أنيقة وباذخة لا ليحتفلوا بالأعياد العامّة بل ليستظهروا أمانيهم الخاصّة في أعياد غيرهم، ويشيموا فيها مثلا وصورة لما يؤمّلون مغيّرين اسم الحاكم في سرائرهم. يؤدّي نفس الواجبات من يستشيرون المنجّمين والسّحرة والعرّافين بأصنافهم* لمعرفة أجل قيصر، وهي ممارسات تُعلّمها النّاسَ الشّياطينُ حرّمها الله ولذلكلا يلجأ إليها النّصارى حتّى لحاجاتهم الخاصّة. لكن من يحتاج إلى الاستعلام عن حياة قيصر إن لم يكن يضمر أو يتمنّى لها الأذى أو يأمل أو يرتقب شيئا بعدها؟ ما بهذه الذّهنيّة يُستخبر عن مصير موالٍ أعزّاء؛ وشتّان بين فضولِ قريبٍٍ قلقٍ وعبدٍ منطوٍ على سوء.

36- حبّهم للامبراطور غير صاخب لكنّه صادق

إن كانت الأمور على هذه الصّورة، بحيث بان أنّ من يُدعون رومانا هم العدوّ، فلِم تنفون أن نكون رومانا ما دمتم تعدّوننا أعداء؟ لا يمكن ألاّ نكون رومانا مع كوننا أعداء إذ تبيّن أنّ الأعداء هم من يُدعون رومانا. لا يتمثّل البرّ والدّين والإخلاص الواجب للأباطرة في أدوار من هذا النّوع، يمكن أن تؤدّيها حتّى العداوة لتستتر بها خصوصا، بل في آداب السّلوك الّتي يأمرنا الله بإظهارها بصدق وتجاه الجميع. إذ لسنا مطالَبين بأعمال البرّ إزاء الأباطرة وحدهم؛ بل نعمل الخير لكلّ النّاس دون استثناء، فإلى أنفسنا نحسن نحن من لا نرجو من بشر جزاء ولا شكورا ولا نطمع في غير الله الدّيّان ومثيب الإحسان الّذي لا يفرّق بين النّاس. لذا نحن على نفس الاستعداد تجاه أباطرتنا وكلّ إخواننا في الإنسانيّة؛ إذ حرّم علينا أن نريد الشّرّ أو نصنع الشّرّ أو نقول الشّرّ أو نفكّر في الشّرّ لأيّ من البشر؛ وما لا يحلّ في حقّ الحاكم لا يحلّ في حقّ أحد سواه وما لا يباح في حقّ أحد ربّما أحقّ بالتّحريم في حقّ من أوتي من الله ذاك المقام العظيم.

37- لو انفصلوا عن الامبراطوريّة لانهارت فهم عمادها

إن أُمرنا بمحبّة أعدائنا، كما ذكرنا أعلاه، فمن يحقّ لنا أن نكره؟ كذلك إن نُهينا عن ردّ المثل لمن آذانا، حتّى لا نكون بالفعل مثله، فمن يحقّ لنا أن نؤذي؟ إذ لا بدّ أن تُقرّوا لنا بذلك؛ فكم من الأنكال تذيقون النّصارى، شيئا من عندكم، وشيئا بمقتضى قوانينكم؟ وكم مرّة تجاوزكم العامّة المعادون لنا، مستندين إلى قانونهم الخاصّ، فراغوا علينا بالأحجار والنّار؟ لا يُعفون من بطشهم المعتسف كأعياد باخوس* حتّى أموات النّصارى فينتزعونهم من هجعة القبر وملاذ الموت، وقد تشوّهوا وتفسّخوا فيمزّقونهم ويقطّعون أشلاءهم. مع ذلك أيّ مأخذ لكم على أناس في مثل إخائنا، أيّة إساءة تردّون من أناس ثابتين على ودادتهم حتّى الموت، بينما تكفي ليلة واحدة للانتقام من أعدائنا ببضعة مشاعل، لو جاز عندنا ردّ الشّرّ كيلاً بكيل؛ لكن هيهات أن ينتقم إله ملّتنا بنار بشريّة، أو أن تتذمّر ممّا تلقى من البلوى. فلو أردنا الرّدّ لا كذوي تِرات مداجين بل وكأعداء سافرين، هل ستعوزنا تُرى قوّة العَدد أو العُدد؟ وهل يفوق المور* والمركومان* وحتّى الفرثيّون* أو أيّ شعب مستقرّ في بلاد واحدة ضمن حدوده مهما بلغ عدده أمّة منتشرة في الأرض بكاملها؟ رغم حداثة نشأتنا ملأنا جميع الأرض، وأرجاء الامبراطوريّة، من حواضر وجزر وقرى ومدن مستقلّة وحصون ومعسكرات ودوائر انتخابيّة وعمادات وحتّى القصر الامبراطوريّ ومجلس الشّيوخ* والقصبة*؛ لم نترك لكم سوى المعابد. < نستطيع عدّ جيوشكم: جماعتنا في إقليم واحد أكثر>؛ فلأيّة حرب لسنا مناسبين ومهيّئين، حتّى لو كنّا أقلّ عددا نحن الّذين نقبل بسرور قتلنا، لو لم يكن أحلّ للإنسان في ديننا أن يُقتل من أن يَقتل؟ كان يمكننا حتّى ونحن عزّل وغير متمرّدين بل مخالفون لكم فقط محاربتكم بالانفصال عنكم لا غير. فلو اعتزلناكم في مكان قصيّ ونحن بمثل هذه القوّة العدديّة لوصم بالتّحقيق سيطرتكم فقدانُ هذا الكم من المواطنين أيّا كانت صفتهم، ولكان اعتزالنا بمفرده عقابا لكم. إذن لفزعتم بالتّأكيد من وحدتكم، من الصّمت الرّائن والهمود المخيّم على الأرض حولكم، ولزم أن تبحثوا عمّن تحكمون؛ ولكان لكم من الأعداء أكثر ممّا بقي لكم من المواطنين. فأعداؤكم اليوم قلّة بسبب كثرة النّصارى، إذ لكم في المسيحيّين كلّ السّكّان تقريبا لكلّ المدن تقريبا؛ لكنّكم آثرتم تسميتنا أعداء الجنس البشريّ بدلا من أعداء الضّلال البشريّ. من ينقذكم إذّاك من أولئك الأعداء الخفيّين النّاشرين دمارهم في نفوسكم وأجسامكم، من يحميكم من غارات الشّياطين الّتي نصدّها عنكم دون جزاء ولا مقابل؟ سيكفينا ثأرا أن نترككم وحدكم نهبا للأرواح النّجسة. بدل التّفكير في مكافأتنا على هذه الخدمة الجليلة، واعتبارنا قوما لا غير مزعجين لكم فقط، بل ولازمين كذلك لكم، آثرتم عدّنا أعداء، ونحن لا جرم أعداء لكن لا للجنس البشريّ بل للضّلال البشريّ بالأحرى.

38- لا يجوز اعتبارهم حزبا فهم لا يفعلون ما تفعل الأحزاب

كذلك وبشيء من الحلم، كان ينبغي ألاّ تُعدّ من الأحزاب المحظورة ملّتنا الّتي لم يصدر منها ما يُخشى من الأحزاب المحظورة. فإن لم يخطئ تقديري، تتمثّل الغاية من منع الفرق في رعاية الأمن العامّ كيلا تنقسم الدّولة إلى شيع متناحرة، فيسهل أن تشوّش صراعات الأهواء المتنافسة اجتماعات هيئات النّاخبين ومجالس الشّورى والنّدوات البلديّة ومؤتمرات الشّعب وحتّى العروض العامّة بينما أخذ البعض يتّخذون العنف مهنة وخدمة مأجورة. لكن في حالتنا نحن الفاترين عن الأمجاد أو المناصب، لا حاجة بنا مطلقا إلى الاشتراك في مثل تلك الاجتماعات، ولا شأن أبعد عن أذهاننا من الشّأن العامّ: نقرّ شأنا عامّا واحدا يعني الجميع، هو العالم. أمّا عروضكم فنتخلّى عنها سيما ونحن لا نعير أصولها المستمدّة كما نعلم من معتقداتكم الباطلة، والأغراضَ الّتي تتناولها أيّ اهتمام؛ في نظرنا، ليس في ما يقال أو يشاهَد أو يُسمع شيء في مثل جنون السّرك أو سفاهة المسرح أو وحشيّة الحلبة أو سخافة ألعاب القوى. فيم نسيء إليكم إن آثرنا عليها ملاذّ أخرى؟ إن رفضنا مشاهدة تلك الأنواع من التّسلية فالخسار، إن وُجد، علينا لا عليكم؛ إنّا نشجب مِتعكم، ومتعنا في المقابل لا تعجبكم؛ < ولئن أمكن للأبيقوريّين* أن يحدّدوا حقيقة للّذّة هي دعة النّفس>، فمشاغل الملّة النّصرانيّة أعظم.

39- اجتماعاتهم مثال للورع والإخاء

سأعرض الآن مشاغل حزب النّصارى، فأدحض السّوء المفترى عليها وأبيّن أنّها حسنة إن كشفت لكم الحقيقة؛ نحن جسد يؤلّفه الشّعورُ بالانتماء المشترك لديننا ووحدةُ مذهبنا ورابطة رجائنا. نؤلّف عصبة وجمعيّة لنهجم كقوّة مسلّحة على الله بصلواتنا، وذاك عنف يرتضيه الله؛ نصلّي كذلك من أجل أباطرتنا ومن أجل أعوانهم ومفوّضيهم، وليستتبّ الأمن ويسود السّلام كلّ شيء وتُرجأ نهاية العالم. نجتمع لنذّكّر كتاب الله، كلّما أنذرتنا أو دعتنا إلى الادّكار آية من أحوال زماننا الحاضر؛ فنغذّي بكلام الله إيماننا، ونوطّد رجاءنا، ونعزّز ثقتنا، ونثبّت تمسّكنا بتعاليم ديننا. اجتماعنا فرصة كذلك للوعظ والمحاسبة بمقتضى الشّريعة الإلهيّة؛ إذ يكتسي الحكم على أعمالنا أهمّيّة كبرى لدى أناس يثقون بأنّ الله يراهم، وإنّه لإنذار شديد يسبق حكم الآخرة أن يُفصل أحدنا، إن أخطأ، عن المشاركة في الصّلاة والاجتماع وكلّ الشّعائر المقدّسة. يرأسنا في شعائرنا شيوخ مزكّون نالوا هذا الشّرف لا بالمال بل بشهادة الجميع بفضلهم؛ إذ لا دخل في الشّأن الإلهيّ للمال؛ حتّى إن وُجد لدينا صندوق فإنّه لم يُجمع من رسوم مفروضة كما لو كان في الدّين بيع وشراء؛ بل يتبرّع كلّ منّا بمبلغ بسيط شهريّ أو متى شاء، وفقط إن شاء، وفقط إن استطاع؛ فلا أحد مكره على الإسهام، بل يعطي كما نوى. تلك بمثابة ودائع التّقوى؛ فهي لا تُنفق على المأكل والمشرب وذميم القصوف، بل على إطعام ودفن المساكين، وعلى البنات والبنين الّذين بلا آباء ولا مال، والخدم المسنّين، وعلى من فقدوا كلّ مالهم، وعلى من هم في المناجم أو الجزر أو السّجون، إن كان ذلك بسبب انتمائهم إلى دين الله، إذ يصيرون في كفالة ملّتنا. لكنّ عمل البرّ هذا النّابع من المحبّة يصمنا عند البعض، فتراهم يقولون: "انظر كيف يحبّ بعضهم بعضا"، فهم بالعكس يكره بعضهم بعضا، أو "انظر استعدادهم للموت كلّ فدا الآخر"، فكلّ عندهم على أتمّ استعداد لقتل الآخر. ولتسمية بعضنا بعضا إخوانا يجنّ جنونهم، لا لسبب في ظنّي سوى أنّ كلّ تسميات القرابة عندهم تعني مودّة متصنّعة؛ لكنّا إخوانكم أنتم أيضا على شرع الطّبيعة أمّنا جميعا حتّى إن خلوتم من الإنسانيّة لأنّكم إخوة سيّئون. ولعمري ما أجدر أن يُدعى ويُعدّ إخوانا من يقرّون بأب واحد هو الله، وسُقوا من روح واحد، روح القداسة، ونزلوا من رحم واحد، رحم الجهالة، إلى نور واحد، نور الحقيقة. لكن قد تستخفّون بشرعيّة أخوّتنا لأنّ لا مسرحيّة تتغنّى بها، أو لأنّا إخوة في ملك الأسرة الّذي يقطع تقريبا عندكم آصرة الأخوّة. نظرا إلى هذه الوشائج الّتي توحّدنا قلبا وروحا، لا نتردّد قطّ في تقاسم ما في أيدينا من متاع الدّنيا، فكلّ شيء مشاع بيننا ما عدا أزواجنا. الشّراكة بيننا لاغية في هذا المجال الّذي فيه وحده يمارس المشاعيّة غيرنا، حيث لا يستحلّون فقط أزواج أصحابهم بل يهدون كذلك زوجاتهم بتساهل لأصحابهم على مذهب اثنين من حكمائكم الأقدمين، سقراط* اليونانيّ وكاتون* الرّومانيّ اللّذين أعارا لصديقيهما زوجتيهما إذ عقدا عليهما لتنجبا لهما في بيوت غيرهما. ولا أدري إن فعلتا مكرهتين حقّا؛ إذ لِم تحرصان على العفّة وقد فرّط فيها زوجاهما بتساهل! فأيّ مثال بليغ على حكمة أتّيكة* ورصانة رومية: قوّادان هما فيلسوفكم ورقيبكم. ما العجب إذن في أن تتجلّى تلك المحبّة في عشاءات مشتركة؟ إنّكم تهوّلون على عشاءاتنا البسيطة مستنكرين طابعها الإجراميّ، وواجدين فيها فضلا عن ذلك صورة من إسرافنا. نحن لا شكّ المقصودون إذن بقولة ديوجينس*: "أهل ميغارة* يأكلون كأنّهم يموتون غدا، ويبنون كأنّهم لا يموتون أبدا." لكن أسهل أن يرى المرء القذى في عين غيره من أن يرى الخشبة في عينه*. لقد خمّ الهواء من تجشّؤات وجهائكم من خطباء الشّعب وأعضاء مجالس العشائر والنّظّار البلديّين؛ ولا بدّ للسّاليّين* إن أعدّوا لمأدبة أن يستدينوا، ولا بدّ من كتبة وحسبة لإحصاء النّفقات في الاحتفالات بجبي عُشر هرقل*، ويعيَّن الأفضل بين الطّهاة لشعائر الأسرار الأباتوريّة* والدّيونيسيّة* والأتّيكيّة*، ولأدخنة وليمة سارابيس* يهبّ رجال الإطفاء مشمّرين؛ مع ذلك لا حديث لكم إلاّ عن مائدة النّصارى. عشاؤنا نحن يعرض في اسمه بالذّات غايته؛ فاسمه عند اليونان يعني المحبّة*؛ ومهما أُنفق عليه، فربحٌ هو الإنفاق باسم البرّ إن كنّا بتلك اللّقمة نساعد المعوزين، لا كما عندكم حيث يجتهد الطّفيليّون في الحصول على شرف مصادرة حرّيّتهم لقاء إشباع بطونهم وسط ذلّ الاكتداء، بل كما عند الله حيث يولى الوضعاء مزيدا من الاعتبار. إن كان مقصد الوليمة نبيلا فقياسا عليه احكموا على بقيّة جوانبها؛ وبما أنّها نابعة من فريضة دينيّة، لا يُسمح فيها بالاستخذاء ولا الاستعلاء. لا نمدّ أيدينا إلى الطّعام قبل توجيه صلاة إلى الله؛ ثمّ نأكل الرّماق ونشرب في حدود اللّياقة. نأكل كأناس يذكرون فرض عبادة الله حتّى آناء اللّيل ونتسامر كأناس يعلمون أنّ الله يسمعهم. بعد غسل أيدينا وإشعال الأضواء يُدعى كلّ فرد إلى وسط الحلقة ليرتّل للرّبّ أناشيد من الكتاب المقدّس أو ممّا جادت به قريحته؛ بذلك تُختبر كيفيّة شربه؛ وننهي عشاءنا بصلاة أخرى. ثمّ يتفرّق جمعنا، لا زمرا من المفسدين أو المتسكّعين أو العابثين المعربدين، بل حريصين على الاعتدال والأدب، دأب من اجتمعوا ليتغذّوا لا بطعام بل بالدّين. اجتماعنا بهذا النّحو مخالف للقانون إن كان فيه شبه بما يمنعه القانون، ويستحقّ العقاب إن شكا أحد ممّا يُشتكى منه عادة بخصوص الاجتماعات الحزبيّة. أيّ شخص اجتمعنا أبدا لإيذائه؟ في اجتا كما عند افتراقنا، نمتنع جماعيّا وفرديّا عن إيذاء أحد أو تكدير أحد؛ لمّا يجتمع الكرام الأخيار، لمّا يلتقي الأعفّة الأبرار، لا يجب أن يُدعوا حزبا بل مجلسا موقّرا.

40- ليسوا سبب كوارث الامبراطوريّة

بالعكس يجدر إطلاق اسم الحزب على عصبة المتآمرين الحاقدين على أناس طيّبين، على المتعطّشين لدم الأبرياء المتذرّعين لتبرير حقدهم بتلك الدّعوى الباطلة: أنّهم يرون النّصارى سبب كلّ الكوارث العامّة وكلّ بلايا الشّعب < منذ ظهورهم>. إن فاض التّيبر* في رومية أو لم يغمر النّيل بمياهه الحقول، إن أمسكت السّماء ماءها أو مادت الأرض أو حلّت مجاعة أو انتشر وباء، فورا يعلو الهتاف: "النّصارى إلى الأسد"؛ ويحكم، أإلى أسد واحد كلّ هؤلاء؟ أخبروني أرجوكم، قبل تيبريوس* أي قبل مجيء المسيح كم من كوارث أهلكت الأرض والمدن*؟ نقرأ أنّ جزر هيرة* وأنافيس* وديلوس* ورودس* وقوس* اختفت في اللّجّة مع آلاف السّكّان. ويذكر أفلاطون* أنّ أرضا أوسع من إفريقية أو آسية هوت إلى قاع البحر الأطلنطيّ*؛ كذلك بلعت هزّة أرضيّة ماء بحر كورنتوس* واقتطعت قوّة الأمواج لوقانية* وأفردتها في شكل صقلّية: ما حلّت تلك الكوارث دون الإضرار بالسّكّان. أين كان إذّاك، لا أقول النّصارى مسفّهو آلهتكم، بل آلهتكم أنفسهم، يوم غمر الطّوفان الأرض كلّها أو، كما يرى أفلاطون*، سهولها فقط؟ إذ تشهد على أنّهم جاؤوا بعد ذلك الطّوفان المدن الّتي ولدوا أو ماتوا فيها والّتي شادوها فما كانت لتبقى قائمة إلى يومنا هذا لو لم تُشد بعد الكارثة. لم تكن فلسطين قد استقبلت بعد اليهود النّازحين إليها من مصر، ولا ضربت ملّة النّصارى فيها جذورها، لمّا التهمت نار نازلة من السّماء بلادي سدوم وعمورة* المحاذيتين لها، وإلى اليوم ما زالت تنبعث هناك من الأرض رائحة الحريق، وإن وُجدت على الأشجار ثمار فما هي إلاّ تهيّؤات للأبصار حالما تُلمس تنقلب رمادا. حتّى تسكية* وكمبانية* لم تكونا تشكوان بعد من النّصارى لمّا شبّت في وُلسينية* نار أمطرتها السّماء، وفي أهالي بومبيوم* نار هوت عليها من جبلها؛ كذلك لم يكن أحد بعد يعبد الله الحقّ برومية لمّا كان حنّبعل* يقدّر عدد قتلى الرّومان في كانّة* كائلا خواتمهم بالصّاع؛ وكان آباؤكم جميعا يعبدون آلهتكم كلّها لمّا احتلّ السّينيّون* الكابيتول*. وحسن أنّه كلّما وقع للمدن مكروه شمل نفس الدّمار المعابد والدّيار بحيث يمكنني تفنيد مزاعمكم بأنّه حصل بسبب تلك الآلهة، فهي أيضا راحت ضحيّته. على امتداد الأزمان استحقّ الجنس البشريّ عقاب الله؛ أوّلا لأنّه لم يسع إليه بالطّاعات، ولأنّه كلّما عرفه جزئيّا لم يلتمسه ليتّقيه، بل وخرق آلهة أخرى ليعبدها؛ ثمّ إنّه برفض البحث عن معلّم البراءة ديّان الذّنوب، انغمس في شتّى الرّذائل والخطايا. ولو التمس الله لعرفه إذ التمسه، ولأطاعه إذ عرفه، ولخبر فيه إذ عرفه رحمته لا نقمته؛ فليعرفْه الآن غاضبا كما كان في الماضي قبل ظهور اسم النّصارى. لِم لا يدرك أنّ الشّرور أيضا تأتيه ممّن لم يعلم أنّ منه الخيرات؟ هو مذنب في جنَب من جحد نعماه. مع ذلك إن نقارن الكوارث الماضية بالحاضرة نجد أخفّ تلك الّتي تحدث اليوم مذ منّ الله بالنّصارى على الأرض؛ فمنذ ذلك الوقت خفّفت تقواهم طغوى غيرهم في العالم، وبدأ يوجد شفعاء عند الله. أخيرا لمّا تنقطع عنكم أمطار الصّيف والشّتاء، ويبعث محصول الأرض على الانشغال، وأنتم منغمسون في القصف كلّ يوم، والحمّامات والحانات والمواخير تشتغل بدون انقطاع، تقدّمون إذّاك ليوبتر* ذبائح الاستسقاء، وتطلبون من الشّعب السّير حفاةً في موكبٍ إلى معبده، وتطلبون السّماء في الكابيتول*، وترتقبون المزن من تساقيف معابدكم، معرضين عن الله الحقّ والسّماء. أمّا نحن فنجأر، وقد جفّف الصّوم منّا العروق واعتصرنا التّنسّك عن كلّ مستلزمات العيش، وانقطعنا عن كلّ طيّبات الحياة، بضراعتنا إلى السّماء ملتفّين بالمسوح، ومتمرّغين بالرّماد، حتّى نثير بإلحافنا رأفة الله، فإذا فزنا برحمته حمدتم يوبتر* < وأغفلتم الله>!

41- فتلك الكوارث وُجدت دوما وهي نذير للمؤمنين وعقاب للكافرين

أنتم إذن مسبّبو المضرّة للبشر، أنتم جالبو الكوارث العامّة، بإعراضكم عن الله لتعبدوا الأصنام؛ ولا غرو فأرجحُ أن يغضب عليكم من تركتم لا الّتي تعبدون. وإلاّ فإنّها ظالمة إن آذت بسبب النّصارى حتّى عبدتها الّذين كان يجب إعفاؤهم من العقاب الّذي استحقّه النّصارى. تقولون: "لكنّ هذا يُرَدّ أيضا على إلهكم إن كان يرضيه هو الآخر أن يتأذّى عبدته بسبب الكفرة". لتقبلوا أوّلا بحكمة تدبيره في خلقه، ولن تجدوا إذّاك في الأمر أيّ مأخذ؛ فإنّ من قضى منذ الأزل أن يصدر بعد نهاية العالم حكمه الأبديّ على البشر لا يتعجّل الفصل بينهم، الّذي هو نصّ حكمه فيهم، قبل نهاية العالم. في انتظار الموعد، يساوي في علاه بين كلّ البشر، موزّعا عليهم رحمته ونقمته؛ فقد شاء أن يشرك في نعمه جاحديه وفي بلاياه أولياءه، ليذيقنا جميعا في مجرى حياتنا المشترك لطفه وبأساءه. ولأنّا علمنا من لدنه هذه الحقائق نبغي رحمته ونخشى نقمته، بينما تستخفّون بكلتيهما؛ لذا كلّ أرزاء دنيانا هي من الله لنا إن مسّتنا إنذار وهي لكم عقاب. لا نتأذّى قطّ من تلك البلايا، فأوّلا لا شيء يهمّنا في حياتنا هذه سوى الخروج منها سريعا، ثمّ إن حلّت بنا ضرّاء تُعدّون أنتم مستحقّيها؛ لكن حتّى إن مسّنا الضّرّ لعيشنا معكم جنبا إلى جنب، نسعد أكثر بتعرّف نبوءات إلهيّة تدعّم حقّا إيماننا وثقتنا في رجائنا. بالمقابل إن كانت تلك البلايا تحلّ عليكم بسببنا من الآلهة الّتي تعبدون، فلِم تستمرّون في عبادتها وهي بمثل ذاك الجحود وذاك الظّلم، وكان أحقّ بها أن تساعدكم وتحميكم وسط عذاب النّصارى.

42- الرّدّ على تهمة عدم اندماجهم اجتماعيّا وقلّة جدواهم اقتصاديّا

لكنّكم تطلبون عقابنا ببند اتّهام آخر، وتزعمون أنّا لا ننفع في شؤون الدّنيا؛ كيف يمكن أن يكون كذلك أناس يعيشون معكم جنبا إلى جنب، ويشاركونكم المأكل والملبس والسّكنى وكلّ مستلزمات الحياة؟ فما نحن بالبراهمة أو زهّاد الهنود المتنسّكين في الغابات والمنقطعين عن الحياة. نحن نذكر واجب الحمد لله ربّنا وبارينا فلا نرفض ثمرة أعماله، بل نأخذ منها باعتدال، دون تجاوز الحدّ ولا في غير الوجه الصّحيح؛ لذا لا نمتنع عن ارتياد القصبة*، ولا السّوق، ولا الحمّامات، ولا الحوانيت والمتاجر ولا المعامل، ولا الفنادق ولا الأسواق الموسميّة وشتّى المعاملات الأخرى، إذ نقطن معكم نفس العالم. نركب السّفن معكم، ومعكم أيضا نحارب* ونزرع الحقول ونتاجر، ونشترك معكم في شتّى الحرف، ونضع منتجاتنا لاستخدامكم؛ فلست أدري كيف نبدو لكم بلا نفع في شؤون حياتكم، ونحن بها ومنها نعيش*. صحيح أنّي لا أؤمّ احتفالاتك بعيدك، لكنّي وفي ذلك اليوم أيضا إنسان مثلك؛ صحيح أنّي لا أغتسل عند مطلع الفجر لأعياد ساترنوس* كيلا أفقد اللّيل والنّهار معا؛ لكنّي أغتسل في ساعة معقولة أنسب للصّحّة، تحفظ دمي وحرارتي، فقد أبرد وأشحب وأقع ميّتا إثر اغتسالي. ولا أجلس إلى المائدة في الشّارع في أعياد ليبر* كما اعتاد مصارعو الوحوش تناول عشاءهم الأخير، مع ذلك آكل من طعامك حيثما رحتُ. لا أشتري إكليلا أتوّج به رأسي؛ فقل فيم يعنيك كيف أستخدم الزّهور الّتي اشتريتها؟ أراها أبهى مفروطة ومفرّقة ومنسرحة؛ بل حتّى حين تُضفر في إكليل بأنوفنا نشمّ الإكليل، فلير من يشمّون بالشَّعر شأنهم. كذلك لا نؤمّ عروضكم ومهرجاناتكم، لكنّي أشتري ما يُعرض للبيع فيها إن طاب لي من المحالّ المختصّة؛ صحيح أنّا لا نشتري البخور لكن إن شكت منّا بلاد العرب فليعلم السّبئيّون أنّ ما يُستخدم من بضائعهم حنوطا لموتى النّصارى أكثر وأغلى ممّا يُحرق بخورا لآلهتكم. تقولون لا محالة إنّ مداخيل المعابد في تناقص كلّ يوم، فكم من النّاس يُلقون اليوم بنقود في صندوق العطايا؟ فعلا لا نكفي لمساعدة البشر وآلهتكم المتسوّلة معا، ولا نرى من واجبنا أن نعطي لغير من يستجدينا؛ فليمدّ يوبتر* لنا يده مستعطيا فيتلقّى إذّاك صدقاتنا، فإنّ شفقتنا تعطي في الشّوارع أكثر ممّا يعطي ورعكم في المعابد. "لكنّ ضرائب أخرى تتأذّى كذلك"؛ يكفي أنّ أخرى تشكرنا نحن النّصارى المسارعين إلى سداد ما علينا لأمانتنا فإنّا نستنكف عن غشّ غيرنا؛ بحيث إن عوّض هذا ما تفقد الخزينة العامّة جرّاء الغشّ والكذب في بياناتكم الجبائيّة، فمن اليسير إذّاك اعتبار النّقص الّذي تشكون منه في أحد البنود موازَنا بضمان دفعنا في البنود الأخرى.

43- لكنّهم لا يمارسون المهن المنافية للأخلاق الكريمة

أعترف مع ذلك بصراحة أنّ البعض محقّون إن شكوا ربّما قلّة جدوى النّصارى في بعض الأنشطة؛ فما لهم أدنى خبرة بعمل القوّادين أو الغواة أو وسطاء البغاء أو القتلة المحترفين، أو المسمّمين، أو السّحرة، وكذلك الكهّان والعرّافين والمنجّمين. بل هو نفع ألاّ ننفع في تلك المجالات؛ مع هذا ما يأتِ من ضرر بمصالحكم من ملّتنا يعوّضه بالتّحقيق عوننا في مجالات أخرى؛ إذ بكَم تقدّرون خدمةَ لا أقول من يخرجون منكم الشّياطين، ولا أقول من يدعون الله من أجلكم، فقد لا تصدّقون بل أقول فقط من لا تخشون منهم شيئا؟

44- الولاة يظلمونهم فليس فيهم مجرمون

لكنّ لا أحد في الواقع يرى تلك الخسارة الحقيقيّة والجسيمة للدّولة، ولا يعتبر ذلك الضّرر بالمجتمع لمّا ترتخصون نفوسنا نحن الأبرار، وتهدرون دماءنا نحن الأبرياء. نُشهد على ذلك وقائع جلسات محاكمكم، أنتم الّذين تشرفون يوميّا على محاكمة المساجين وبأحكامكم تزِنون لوائح أعمالهم؛ يمرّ أمامكم كلّ أنواع المجرمين بشتّى عرائض الاتّهام؛ فهل من قاتل بينهم أو نشّال أو منتهك حرمات أو هاتك أعراض أو سارق حمّامات سُجّل كمسيحيّ في نفس الوقت؟ أو حين تقدّمون للمحاكمة النّصارى بتلك الصّفة هل هناك بينهم من تسجَّل عليه جرائم مماثلة؟ كلاّ بل من ذويكم تغصّ السّجون دوما، من ذويم تتنفّس المناجم دوما، من ذويكم تسمَّن وحوش حلباتكم دوما، من ذويكم يوظّف المتعهّدون فِرق المجرمين لعروض المجالدة؛ لا مسيحيّ هناك إلاّ بصفته مسيحيّا، أو إن وُجد عليه ذنب آخر، فما هو بمسيحيّ بعد.

45- لأنّهم يتّقون الله ولأنّ الشّريعة أقدر من القوانين الوضعيّة على ردع البشر

نحن وحدنا الأبرياء إذن؛ أوَعجبٌ أن يكون ذاك أمرا حتميّا، فإنّه حتميّ فعلا؛ من الله نفسه تعلّمنا البراءة، وعلى الوجه الأكمل نعلمها فمن المعلّم الأكمل تلقّيناها، ونرعاها بإخلاص فمن لدن خبير لا يُستخفّ به أُمرنا بها. أمّا أنتم فمن حكم البشر تعلّمتم البراءة، وسلطة البشر كذلك أمرتكم بها؛ فليس لكم إذن نظام كامل يفرض مهابته ويقودكم إلى البراءة الحقيقيّة؛ فإنّ قدرة حكمة الإنسان على تبيين ما هو خير حقّا كقدرة سلطته على الإلزام به، وتضليل الأولى في مثل سهولة تحدّي الثّانية. ولعمركم ما الأتمّ، أن يقال: "لا تقتلْ" أم: "لا تترك للغضب إلى نفسك سبيلا"؛ ما الأكمل، حظر الزّنا أم تحريم الشّهوة في اختلاجة الطّرف بمعزل عن النّاس؟ ما الأحكم، منع فعل السّوء أم حتّى كلمة السّوء أيضا؟ ما الأتقن، النّهي عن الإساءة أم حتّى عن ردّها أيضا؟ بل تعلمون كذلك أنّ الّتي تبدو من قوانينكم تنحو إلى البراءة استعيرت من الشّريعة الإلهيّة لكونها الأقدم، فقد تحدّثنا سابقا عن قدم عصر موسى. لكن ما مدى سلطان القوانين البشريّة والحال أنّ الإنسان كثيرا ما يفلت منها بالتّخفّي عنها عند ارتكاب جرائمه، وينتهكها أحيانا عن اختيار أو اضطرار؟ فكّروا كذلك في قصر مدّة أيّ عقاب عندكم فما هو بباق إلى ما بعد الموت؛ من هنا يستخفّ أبيقور* بكلّ عذاب وألم قائلا: "إن كان خفيفا فلا يُعتدّ به، وإن كان شديدا فما هو بدائم". الحقّ أنّا نحن الّذين يزننا إله بصير نحذر منه جزاء أبديّا، نسارع وحدنا إلى البراءة كما يُنتظر؛ ولإحاطة علمه واستحالة الاختفاء عنه وشدّة عذابه لا الطّويل بل السّرمديّ، نخشاه هو الّذي يجب أن يخشاه أيضا من يحكم، اللهَ لا الواليَ نخشى.

46- الرّدّ على من يعدّونهم فرقة فلسفيّة

ثبتنا في اعتقادي أمام دعواكم علينا المطالبة بدم النّصارى؛ عرضنا وضعنا كاملا، وكيف يمكن إثبات أنّه فعلا كما قدّمناه، استنادا إلى مصداقيّة وقِدم الكتاب المقدّس، واعتراف قوى الشّرّ الرّوحيّة؛ فمن يدّعي نقض أقوالنا لا بالجعجعة اللّفظيّة بل بنفس الصّيغة الّتي توخّينا، المرتكزة على الحقيقة؟ لكن رغم ظهور حقيقتنا للجميع، ما زال المشكّكون أمام صلاح ديننا الّذي بات معروفا بالتّجربة ومن خلال تعامل النّاس معنا، يعتبرونه لا نهجا ربّانيّا بل نوعا من الفلسفة؛ فهو يشترك حسب أقوالهم مع الفلاسفة في الإقرار والمناداة بمُثل البراءة والبرّ والصّبر والاعتدال والعفّة. لماذا لا نساوى إذن بمن نقارَن بهم من حيث الأفكار في ترخيص مذهبنا وحصانته من العقاب؟ أو لِم لا يُدعون هم أيضا بصفتهم نظراءنا إلى نفس الفروض الّتي نتعرّض لرفض أدائها إلى الويلات؟ من أرغم فيلسوفا على تقديم ذبائح للآلهة أو القسم باسمها أو إخراج مصابيح في الظّهر لا طائل منها؟ بل إنّهم يسفّهون آلهتكم علنا ويهاجمون معتقداتكم في كتبهم وأنتم تشيدون بهم؛ ويُغلظ كثيرون منهم في نقد الحكّام فتؤيّدونهم، بل تكافئونهم بالتّماثيل والجرايات ولا تلقون بهم إلى الوحوش. لكن لذلك مبرّره: إذ يُدعوْن فلاسفة لا نصارى، واسم الفلاسفة هذا لا يطرد الشّياطين؛ ولا غرو فهم يعدّون الشّياطين في منزلة دون الآلهة مباشرة؛ سقراط* مثلا كثيرا ما كان يقول: "إن شاء شيطاني"؛ ولئن أبان في إنكاره آلهتكم أنّه علم شيئا من الحقيقة فإنّه أمر في آخر حياته بذبح فرّوج لأسكولابيوس* إكراما بلا شكّ لأبيه أبولّون* الّذي أعلن أنّ سقراط* أحكم النّاس*. فيا لتهوّر أبولّون* إذ شهد بالحكمة لرجل ينفي وجود الآلهة. بقدر ما تتعرّض الحقيقة إلى الكراهية، يصدُم المدافعُ عنها بصدق، بينما يُشرَّف بهذا الاسم العظيم عند مضطهديها من يحرّفها وينتحلها. بينما الفلاسفة، أولئك المضلّون المستهترون بالحقيقة، يدّعونها وهم يعادونها، ويفسدونها بادّعائها كأناس يطلبون المجد، يلتمسها النّصارى حتما ويقدّونها بنزاهة كأناس يحرصون على خلاصهم. لسنا بالتّالي سواء في العلم ولا في العمل كما تظنّون؛ بأيّ قول ثابت أجاب طاليس* سيّد الفلاسفة الطّبيعيّين كرويسوس* الّذي جاء يسأله في الرّبوبيّة فتهرّب مرّة تلو أخرى بعد انقضاء مهلة التّفكير؟ أيّ حرفيّ نصرانيّ يجد الله ويبيّنه وينسب له بحقّ كلّ ما يبحثون عنه بشأن الألوهيّة وإن زعم أفلاطون* أنّ اكتشاف صانع الكون غير يسير، وصعبٌ إن اكتُشف تفسيره للغير. أمّا إن فوضل بيننا في العفّة فإنّي أقرأ في حكم الأثينيّين على سقراط بندا يدينه كمفسد الشّباب؛ بينما لا يتّخذ المسيحيّ عن المرأة بدلا؛ تنبئنا أخبار الفلاسفة كيف كان ديوجين* يلتهب شهوة بين أحضان المومس فرينة*، وأسمع أنّ سبيوسبّوس* تلميذ أفلاطون قُتل بالزّنا؛ أمّا النّصرانيّ فيولد منذورا كرجل لزوجته فقط. وديمقريط* الّذي فقأ عينيه لأنّه كان لا يستطيع رؤية النّساء دون تشهّيهنّ ويتعذّب إن لم يظفر بهنّ بإصلاحه هذا يقرّ بعبوديّته لشهوته بينما لا يرى المسيحيّ المرأة بعينيه السّليمتين فهو بالرّوح أعمى عن الشّهوة. فإن جادلتُ في كرم الخلق فهذا ديوجين* يطأ بقدميه الموحلتين بُسُط أفلاطون* المليئة كِبْرا بكبْر من نوع آخر، أمّا النّصرانيّ فلا يتكبّر ويرتكب الإساءة حتّى إزاء الفقير. وإن حاججتُ حول التّواضع، فمعلوم طموح فيثاغور* عند الثّوريّين* وزينون* عند البريانيّين* إلى الرّياسة، أمّا النّصرانيّ فلا يطمح حتّى لمنصب ناظر بلديّ*. وإن نازعت حول دعة النّفس، فبعكس ليكرغوس* الّذي اختار إماتة نفسه جوعا لأنّ اللاّكونيّين* حوّروا قوانينه، يحمد النّصرانيّ حتّى وهو يدان؛ وأمّا إن قارنتُ بيننا في الأمانة، فمعروف لدى الجميع كيف أنكر أنكساغوراس* ما استودعه ضيوفه، بينما يُدعى النّصرانيّ أمينا* حتّى من خارج ملّته. وإن نازعت عن المروءة، فخلافا لأرسطو* الّذي دفع بنحو مخز صديقه هرمياس* إلى الهلكة لا يؤذي النّصرانيّ حتّى عدوّه. أرسطو* هذا عوض أن يعظ الإسكندر* كان يتملّقه بنحو مخز كأفلاطون* الّذي باع نفسه للحاكم ديونيسوس* من أجل بطنه. وأرستبّوس* في ردائه الأرجوانيّ وتحت مظاهر الوقار كان يعيش في المفاسد؛ وهيبياس* لقي حتفه وهو يخون مدينته؛ بينما لم يحاول أيّ نصرانيّ فعل ذلك ثأرا لإخوانه الّذين يبادون بكلّ ألوان الوحشيّة. قد يقول قائل إنّ من بيننا نحن أيضا من يحيدون عن نُظم شريعتنا، لكنّا إذّاك نكفّ عن اعتبارهم نصارى، بينما يظلّ الفلاسفة حتّى بعد تلك الفعال يتمتّعون باسم وشرف الحكمة عندكم. ما وجه الشّبه إذن بين الفيلسوف والنّصرانيّ؟ بين تابع يونان وتابع السّماء؟ بين من ديدنه الصّيت ومن ديدنه الحياة؟ بين من يعمل بالقول ومن يعمل بالفعل؟ بين من يبني ومن يهدم؟ < بين صديق وعدوّ الضّلال؟> بين مزوّر الحقيقة وصائنها؟ بين مختلسها وحارسها؟

47- تنديد بالازدواجيّة في التّعامل معهم ومع غيرهم. الفلاسفة استقوا حكمتهم من الكتاب المقدّس

< الحقيقة إن لم يخطئ ظنّي سابقة على كلّ المذاهب>، ولقد أشرت إلى أنّ أقدميّة الكتاب المقدّس السّابق وضعه للنّاس تجعل من السّهل الاعتقاد بأنّه هو الكنز الّذي أتت منه كلّ حكمة لاحقة؛ ولولا حرصي على الحدّ من طول مقالي لتوسّعت في إثبات ذلك أيضا. من من الشّعراء وأدعياء الحكمة لم يستق قطّ من ينبوع الأنبياء؟ من هنا قطعا روى الفلاسفة ظمأ فكرهم، فبدوا بما استمدّوا منّا شبيهين بنا*؛ من هنا أيضا في اعتقادي استبعدت الفلسفةَ قوانينُ بعض الشّعوب، أعني سكّان طيبة* وإسبرطة وأرغوس*. فهم أناس يحاولون التّشبّه بنا، ولأنّهم مولعون بالشّهرة والخطابة فقط، كلّما وجدوا بفضل فضولهم شيئا هنا أو هناك في الكتاب المقدّس انتحلوه كعملهم الذّاتيّ، وهم لا يؤمنون بأنّه ربّانيّ ليمتنعوا عن تحريفه، ولا يفهمونه بقدر كاف إذ ظلّ غامضا إلى ذلك العصر، معتّما حتّى على اليهود الّذين كان يبدو خاصّا بهم*. فبقدر ما كانت الحقيقة بسيطة، كانت مماحكة البشر المعرضة عن الإيمان تتعثّر، فجرّتهم إلى خلط ظنّيّاتهم بما وجدوا فيه من اليقينيّات. فعلا لمّا وجدوا الله لم يتحدّثوا عنه كما وجدوه، بل راحوا يهاترون حول ذاته وصفاته وجوهره وحيّزه. فزعمه بعضهم لامادّيّا وآخرون مادّيّا، شأن الأفلاطونيّين والرّواقيّين*، والبعض ذا طبيعة ذرّيّة والآخرون ذا طبيعة عدديّة، على رأي أبيقور* وفيثاغور*، وادّعى غيرهم أنّه ذو جوهر ناريّ حسب ما تراءى لهيرقليط*، وأكّد الأفلاطونيّون* عنايته بالكون بينما ذهب الأبيقوريّون* إلى عطالته وغيابه عن شؤون البشر إن جاز التّعبير. جعله الرّواقيّون* خارج الكون، كالخزّاف يدير من الخارج كتلة العالم، وزعمه الأفلاطونيّون* داخل الكون كالرّبّان الّذي يسيّر من الدّاخل سفينته. واختلفوا حول الكون نفسه، إن كان قديما أو محدثا، فانيا أو أبديّا؛ وكذلك حول طبيعة النّفس، فزعمها البعض إلهيّة خالدة والآخرون قابلة للفساد؛ هكذا أدخل كلّ أو بدّل فيه على هواه. ولا عجب أن تحرّف بدع الفلاسفة الكتاب العتيق؛ فإنّ قوما من بذرتهم حرّفوا كذلك ديننا الأحدث مولدا بأفكارهم الظّنّيّة إلى أحكام فلسفيّة، فحادوا عن السّراط الواحد إلى سبل منحرفة متشعّبة ؛ نقول ذلك كيلا يبدو لأحد من تنوّع النّحل المعروف عن ديننا أنّا نشبه الفلاسفة ويحكم من هذا الاختلاف بقصور الحقيقة. لكنّا نسارع إلى إخطار المحرّفين عندنا بأنّ معيار الحقيقة ما أتى من المسيح ونقله أصحابه الّذين من الثّابت أنّ أصحاب البدع المختلفة متأخّرون عن عصرهم*. كلّ تلك المذاهب بنيت ضدّ الحقيقة على أساس الحقيقة نفسها، وذلك الزّيف من عمل أرواح الضّلال، هم الّذين دسّوا زورهم في هذا الدّين المنقذ، وأدخلوا إليه خرافات أرادوا بها، لشبهها بالحقيقة، هدم مصداقيّتها، أو اغتصابها، كيلا يرتئي أحد تصديق النّصارى لأنّهم ليسوا شعراء ولا فلاسفة، أو يرى الشّعراء والفلاسفة أحقّ بالتّصديق لأنّهم ليسوا نصارى. لذا يسخرون منّا إذ ننذر بأنّ الله سيحاسب البشر؛ فالشّعراء والفلاسفة أيضا يجعلون محكمة في العالم السّفليّ؛ وإن أنذرنا بجهنّم*، معين النّار الخفيّ الكائن تحت الأرض والمعدّ للعقاب، ضحكوا منّا، فلهم ما يشبهها في أساطيرهم: نهر من النّار في مملكة الأموات يدعونه بيريفليغيتون*. وإن ذكرنا الجنّة، محلّ النّعيم الّذي أعدّه الله لاستقبال أرواح الصّدّيقين، ويعصمه برزخ من نار عن معرفة عالمنا الأرضيّ، استأثرت بتصديقهم حقول إليزيون*. فأخبروني أرجوكم من أين أتت للفلاسفة والشّعراء هذه المفاهيم الشّبيهة بما لدينا؟ لم تأت من غير أسرارنا المقدّسة. لكن ما دامت قد أتت من أسرارنا المقدّسة، لكونها سابقة عليها، فالأصل أحقّ بالتّصديق من نسخهم المقلّدة الّتي تجد عندهم التّصديق؛ لو أتت من أخيلتهم، لعُدّت أسرارنا المقدّسة إذن نُسخا لما هو لاحق لها، وذلك محال يخالف الواقع. فالجسم لا يتبع ظلّه ولا الحقيقة صورتها أبدا.

48- تأكيد البعث، وقدرة الله عليه

والآن إن أكّد لنا فيلسوف، كما يقول لابريوس* بناء على مذهب فيثاغور*، أنّ البغل ينقلب إنسانا والحيّة امرأة، وعوّج الحجج لإثبات هذا الرّأي مسخّرا لذلك قدراته البلاغيّة، أليس محتملا أن يميل الرّأي العامّ إلى تصديقه، وأن يُقنع النّاس كذلك بتحريم لحوم الحيوان على هذا الأساس؟ أن يقتنع كلّ بذلك، مخافة أن يأكل دون قصد، عند تناول لحم بقر، من بعض جدوده الأقدمين؟ لكن لمّا يعد النّصرانيّ ببعث الإنسان إنسانا، ومعاد قيّوسَ قيّوسَ، يعنّفه الشّعب ويطرده لا بصيحات التّشنيع وحدها بل قذفا بالحجارة. إن كان ثمّة داع إلى عودة النّفوس الإنسانيّة إلى الأجسام، فإنّه يقتضي عودتها إلى الأجسام ذاتها، فبذلك تكون قد عادت فعلا، أي صارت إلى ذات ما كانت؟ فهي إن لم تعد إلى ما كانت قبل، أي إلى تقمّص جسم إنسانيّ هو نفس الّذي كانت فيه، فلن تكون بعد ذات ما كانت؛ < وإن لم تعد ذات ما كانت فكيف يقال إنّها عادت؟ فإمّا تكون قد صارت شيئا آخر ولن تكون إذّاك هي ذاتها، وإمّا تبقى هي هي وإذّاك لن تحلّ في غير الجسم الّذي أتت منه>. سنحتاج إلى متّسع من الوقت ومصادر متعدّدة إن أردنا التّلهّي بمعرفة أيّ حيوان بدا لكلّ أنّه سيتحوّل إليه؛ لكن أوْلى بنا التّركيز على طرحنا أنّ الأحقّ بالتّصديق وبشأو أن يعاد من الإنسان إنسان، ومن أيّ شخص شخص، ولا شيء سوى إنسان، بحيث تُرجع النّفس بالصّفة ذاتها إلى الشّاكلة البشريّة ذاتها، حتّى إن لم تكن بذات الصّورة تماما. وبما أنّ غاية المعاد الحساب، فلا بدّ أن يُعرض كلّ على الله مثلما كان لينال منه جزاء أعماله، إن خيرا أو شرّا؛ لذا ستُبعث الأجسام أيضا، إذ لا يمكن أن تحسّ النّفس شيئا بمفردها، بدون سندها المادّيّ، أي الجسد، وكذلك لأنّ الأنفس لا تستحقّ أن تلاقي حساب خالقها بدون الجسد الّذي أتت كلّ أعمالها وهي بداخله. لكن قد تقول: كيف تُبعث الأجساد وهي رميم؟ ألا انظر إلى نفسك أيّها الإنسان وستجد ما يحملك على التّصديق بذلك؛ تفكّر في ما كنت قبل أن تأتي إلى الوجود؛ عدما طبعا فلو كنتَ شيئا ما لتذكّرته حتما. أنت الّذي قبل أن تكون لم تك شيئا، وتُصار لا شيء بعدما تنتهي من الوجود، لِم لا يمكن أن تُبعث مجدّدا من العدم بمشيئة نفس الخالق الّذي شاء إيجادك من عدم؟ أفي ذلك عليك جديد؟ أنت الّذي لم تكن موجودا أوجدتَ، وبعدما ينتهي وجودك ستعاد إلى الوجود؛ اشرح لي كيف أوجدت، وسلْ إذّاك كيف ستُعاد إلى الوجود؛ فلا شكّ أنّ إعادتك إلى الوجود أيسر ما دمت قد وُجدت يوما، إذ ما كان صعبا كذلك جعلك ما لم تكن أبدا. هذا في اعتقادي تشكيك في قدرة الله الّذي أنشأ جسد هذا الكون المترامي من لا شيء، وبثّ فيه من الخواء والعدم الحياة بالرّوح الّذي تستمدّ منه كلّ الكائنات الحياة وجعل لنا فيه مثلا يشهد ببعث الإنسان. الضّياء يختفي كلّ يوم ليسطع من جديد، ويخلفه الظّلام ليرتحل بدوره في تعاقب مماثل، والنّجوم تموت ثمّ تحيى من جديد، والفصول تبدأ مجدّدا من حيث انتهت، والثّمار تنتهي ثمّ تعود، والبذور لا تُنبت وتؤتي أُكلها إلاّ بعد انحلالها وتفسّخها، كلّ شيء يحفظ بالموت بقاءَه، كلّ شيء بالموت يعود إلى الحياة. وأنت أيّها الإنسان، حامل هذا الاسم العظيم، لو عرفت نفسك مستوحيا حتّى شعار بيثية*، ملك كلّ الخلائق المعدّة للموت والمعاد، أتخالك تموت صائرا إلى الفناء؟ أينما تندثر ستقوم، وأيّا كان العنصر الّذي سيطحنك ويبتلعك ويلاشيك ويحيلك عدما، فإنّه سيعيدك؛ فالعدم نفسه ملك من كلّ الأشياء ملكه. تسأل: ستستمرّ إذن سنّة الموت والبعث بلا نهاية؟ لو قضى بذلك ربّ الكون لكان عليك أن تمتثل مرغما لناموس طبيعتك؛ لكنّه في الحقيقة لم يقض بغير ما أنبأَنا به مسبقا. فإنّ حكمته الّتي صاغت الكون على نسق من التّنوّع بحيث تأتلف كلّ الأشياء في وحدة من أضداد شتّى: من الخلاء والملاء، من الحيّ والجماد، ممّا يدرَك وما لا يدرَك، من النّور والظّلام، من الحياة نفسها والموت، جعلَت الدّهر محكوما بهذه السّنّة الثّنائيّة عينها، فهذه الدّار الأولى الّتي نعمرها منذ بدء الخليقة تسير، بحكم طابعها الزّمنيّ، إلى منتهاها، وستليها الأبديّة الّتي نرتجي والّتي ما لها نهاية. لمّا يأزف إذن المنتهى أو البرزخ والحدّ الفاصل، لتبدَّل كذلك طبيعة عالمنا الفانية فتمدَّد وترخى عليها سدول الأبديّة كما قُدّر لها، يومئذ يُبعث النّاس جميعا ليحاسَبوا على ما عملوا من خير وشرّ في هذه الحياة، وينالوا إذّاك جزاءهم على امتداد الأبديّة اللاّنهائيّ. فلا موت بعد من جديد، ولا قيامة من جديد، بل سنظلّ دوما كما نحن الآن، بلا تغيير: عبّاد الله خالدين عند الله على الدّوام، أُلبسوا الجوهر الخاصّ بالأبديّة، والكافرون ومن لم يخلصوا دينهم لله في عذاب النّار خالدون، بالمِثل ألبسوا جرّاء طبيعتها الإلهيّة عدم الفساد. الفلاسفة أيضا يعرفون الفرق بين النّارين الخفيّة والعاديّة؛ فشتّان ما بين النّار المعدّة لاستخدام البشر والمعدّة لحكم الله، سواء نزلت من السّماء صاعقةً أو صعدت من الأرض عبر قنن الجبال، فهي لا تبيد ما تحرق بل تظلّ تفنيه وترفؤه. لذا تظلّ الجبال تلتهب باستمرار، ويظلّ من رجمته صاعقة السّماء قائما فلا تحيله بعد رمادا أيّة نار؛ في ذلك شهادة على النّار الخالدة، ومثل للعقاب المؤبّد الّذي يغذّيه باستمرار حكم الله في الخطأة؛ الجبال تحترق وتظلّ راسية، فما بالك بالمجرمين وأعداء الله؟

49- استسخاف أفكارهم لا يجيز اضطهادهم

هذا ما تدعونه عندنا نحن فقط افتراضات بلا سند، وعند الفلاسفة والشّعراء قمّة العلم وغاية الفهم؛ هم حكماء ونحن سفهاء، هم يستحقّون التّكريم ونحن السّخرية، بل وأكثر من ذلك العقاب. فلتكن أفكارنا أباطيل وافتراضات حقّا: هي مع ذلك ضروريّة؛ لتكن سخافات: هي مع ذلك نافعة، ما دامت تجبر من يؤمنون بها على إصلاح أنفسهم خوفا من العذاب الأبديّ وأملا في النّعيم الأبديّ؛ لذا لا ينبغي أن تُنعت بالأباطيل وتُعدّ سخافات أفكار من المفيد افتراض صحّتها؛ لا يجوز بأيّ اعتبار إدانة ما ينفع الإنسان*؛ لذلك فعندكم أنتم الافتراض المفتقر إلى سند، هذا الّذي يدين ما ينفع النّاس. بل حتّى لو كانت باطلة وسخيفة، فلا ضرر منها على أحد؛ هي شبيهة بمعتقدات كثيرة أخرى عندكم لا تصدرون عليها أيّ عقاب، أساطير وأباطيل بمنجى من الاتّهام والعقاب لأنّ لا ضرر منها؛ لكن بنفس الطّريقة، إن شئتم حقّا، فاحكموا بأنّا نستحقّ السّخرية، لا السّيوف والنّيران والصّلبان والسّباع. تلك الوحشيّة الغاشمة لا يرقص ويقفز مرحا* لها العامّة العمي فقط، بل يفخر بها كذلك بعض منكم يترضّون العامّة بالظّلم، كما لو لم تكن لنا الخِيَرة في كلّ ما لديكم من سلطان علينا*. أنا نصرانيّ بمشيئتي لا شكّ، لذا ستدينني إن شئتُ أن أدان؛ لكن إن لم يكن بوسعك أن تفعل لي ما تستطيع إلاّ إن شئتُ، فما تستطيع إزائي تابع لمشيئتي لا لسلطانك. من هنا فبسخف يبتهج الشّعب بعذابنا، ونحن فعلا أحقّ منه بالفرح الّذي يستأثر به لأنّا نؤثر أن تدينونا على أن نعرض عن الله؛ بالعكس يجب أن يألم من يبغضوننا لا أن يفرحوا، لأنّا نلنا ما اخترنا.

50- هم مثل أعلى في التّضحية من أجل دينهم؛ تحدّي الولاة وشجب غوغائيّتهم

تقول: "لماذا تشكون إذن من اضطهادنا، إن كنتم تريدون معاناته، بينما ينبغي أن تحبّوا من تتلقّون منهم العذاب الّذي تريدون؟" صحيح أنّا نحبّه لكن كما في الحرب الّتي لا يعاني أحد ويلاتها بطيب خاطر، لمّا يكون عليه أن يخاف على نفسه ويعرّضها للخطر. مع ذلك يحارب بكلّ قواه، ويبتهج بالانتصار في المعركة من كان يشكو أهوال المعركة، لأنّه ينال من ذلك مجدا ومغنما؛ نحن أيضا نخوض معركة لمّا ندعى إلى المحاكم لنناضل هناك في سبيل الحقّ مخاطرين بحياتنا؛ وإنّما النّصر نيل ما حاربت من أجله؛ ونصرنا نحن مجده نيل رضى الله وغنمه الفوز بالحياة الأبديّة. لكنّا نخسر لا شكّ إن حافظنا على سلامتنا؛ هكذا إذن ننتصر لمّا نُقتل وننجو لمّا نخسر؛ لكم اليوم أن تهزؤوا منّا وتدعونا هواة الحطب والعواميد إذ تربطوننا إلى عمود وتحرقوننا على كومة من الحطب؛ تلك هيئة نصرنا، ذاك زيّه الموشّى بالسّعف، على تلك المركبة ننتصب مظفّرين. لا عجب والحال تلك ألاّ نروق للمغلوبين؛ ولا عجب أن يتصوّرونا يائسين ومسعورين؛ لكنّ ذاك اليأس وذاك السّعر يرفعان عاليا راية الفضل عندكم إن كانا في سبيل المجد والصّيت*. ترك موقيوس* يده في الهيكل بمحض إرادته: فيا لسموّ نفسه! وألقى أنباذقليس* بكلّ جسمه في أتون إتنة* بكَتانة*: فيا لثبات جنانه! وقدّمت مؤسّسة قرطاج* نفسها لنار المحرقة ناجية من زيجة ثانية: فأيّ مجد لوفائها وعفّتها! وقبل ريقولوس* أن يُصلب جسمه كيلا يعيش هو مقابل عديد الأعداء، فيا له من رجل شجاع انتصر على أعدائه حتّى وهو أسير! ولمّا كان أنكسرخوس* يُضرب حتّى الموت بمدقّ شعير، كان يهيب بجلاّده: "اضرب، اضرب هيكل أنكسرخوس* فإنّك لا تضرب أنكسرخوس* فيا لعلوّ نفس الفيلسوف الّذي يمزح حتّى على ميتته الفظيعة. ولا حاجة بي إلى ذكر من حصلوا بسيوفهم أو بميتة أخرى ألطف على الثّناء والإشادة؛ إذ هؤلاء أنتم فعلا تقدّمون الأكاليل في سباق التّعذيب. وهناك مومس أتّيكيّة* بعدما أعيت جلاّدها قطعت لسانها وبصقته في وجه الطّاغية المستعر غيظا، لتفقد معه النّطق فلا تقرّ بشركائها في المؤامرة لقلبه حتّى لو أرادت وقد غلبها التّعذيب. وزينون الإيليّ* لمّا سأله ديونيسوس* عمّا تقدّم الفلسفة فردّ: "تجاهل الألم"، ظلّ يعبّر بجلَده تحت سياط الطّاغية عن رأيه حتّى الموت؛ لا شكّ كذلك أنّ جلْد اللاّكونيّين* بعنف أمام أقاربهم المشجّعين كان يمنح الأسرة من مجد الاحتمال بقدر ما يريق من دماء أبنائها. فأيّ مجد غال رفيع، لأنّه إنسانيّ، ذاك الّذي لا يُعَدّ لاستخفافه بالموت وألوان التّعذيب وهما مسعورا ولا اعتقادا يائسا، ويجوز له تحمّل الآلام من أجل الوطن أو الدّولة أو الصّداقة بينما لا يجوز تحمّلها في سبيل الله. لكلّ هؤلاء تقيمون تماثيل وترسمون صورا وتخطّون مآثرهم تخليدا لذكرهم؛ واضح أنّكم أنتم أيضا تقدّمون قدر ما تستطيعون بهذه النّصب نوعا من البعث للموتى؛ أمّا من يرجو من الله البعث الحقيقيّ، إن تحمّل الموت في سبيل الله فهو مجنون! تمادوا إذن أيّها الولاة الصّالحون، ستكونون أفضل حقّا عند الشّعب إن ذبّحتم له النّصارى، عذّبونا، قطّعونا، أدينونا، اسحقونا: دليل براءتنا هو ظلمكم؛ لذا يتحمّل الله أن نتحمّل تعذيبكم؛ وإنّكم في حكمكم مؤخّرا بإلقاء مسيحيّة إلى قوّاد بدل الأسد* اعترفتم بأنّ شيةً في العفّة تُعدّ عندنا أفظع من أيّ عقاب وأيّة ميتة. في نهاية الأمر لا تجدي شيئا قسوتكم مهما تفنّنتم فيها، فهي فتنة لملّتنا؛ وعددنا يزداد بقدر ما تقطفون رؤوسنا: فبذر هو دم النّصارى*. كثيرون من حكمائكم يدعون إلى تحمّل الألم والموت، كشيشرون* في رسائله التّسكُلانيّة، وسينيكا* في "نوائبه"، كديوجين* أو بيرّون* أو كالّينيكوس*؛ لكنّ أقوالهم لا تجد من الأتباع مثل النّصارى الّذين يعلّمون بالأفعال. هذا الإصرار الّذي تعيبونه علينا درس بليغ؛ إذ من لا تهزّه رؤيته وتحدوه إلى البحث عن جليّة أمرنا؟ ومن لم يدخل إذ بحث عنها في ديننا؟ ومن لم يرغب إذ دخل في الاستشهاد حتّى ينال نعمة الله بالتّمام ويفوز بمغفرته الكاملة لقاء دمه؟ فبالشّهادة يفتدي كلّ ذنوبه؛ لذا نشكركم هنا على أحكامكم، فكما هي الحال في تعارض الأمور الرّبّانيّة والبشريّة، لمّا تدينوننا يغفر الله لنا.


 

ملاحظات

 

1

محاكمات محلّيّة: domesticis indiciis أو ربّما iudiciis: أي على أساس شهادات عبيد ( تصحيف).

ملّتنا غريبة في الدّنيا: قد يعود ضمير "هي" على "الحقيقة" لكنّ "ملّتنا" أرجح، كما المؤمنون في رسالة القدّيس بولس إلى العبرانيّين 11: 13، وجاء في الحديث ( البخاري 8): "كن في الدّنيا كأنّك غريب أو عابر سبيل".

أناخرسيس: حكيم سكيثيّ أسطوريّ، ذكره هيرودوت* في وصف طقوس قُبيلة عند الشّعوب الفريجيّة*.

2

بلينيوس سكندوس: 62-113 م الأصغر Plinius Secundus أديب ووالي بيثينية. ابن أخ كاتب الموسوعة المنشهورة في "التّاريخ الطّبيعيّ" بلينيوس الأكبر الّذي مات في انفجار فيسوفوس 79م.

ترايانوس: Traianus امبراطور 98-117 م. هذا ردّه: "لا يجب البحث عن النّصارى، وإن أحيلوا إليك فيجب عقابهم، لكن إن نفى أيّ منهم كونه نصرانيّا وأثبت ذلك عمليّا بالذّبح لآلهتنا فليُعف عنه لتوبته" Chriatiani conquirendi non sunt, si deferentur et arguantur puniendi sunt, ita tamen ut qui negaverit se christianum esse idque re ipsa manifestum fecerit, id est supplicando diis nostris, veniam ex paenitentia imperet.

ضرورات السّياسة: في النّصّ "للضّرورة" والمقصود لاسترضاء العامّة.

مجلس الشّيوخ: السّلطة التّشريعيّة في روميّة، وتمثّل الأشراف. فقد كثيرا من نفوذه في عهد الامبراطوريّة.

3

اسم النّصارى مشتقّ من المسح: ذاك فعلا معنى "خرسطوس" باليونانيّة ( Christos ).

تنطقون اسمنا خطأً: chrestianus بدلا من christianus.

أفلاطون: Plato428-348 ق م أشهر فلاسفة اليونان مع أرسطو.

أبيقور:Epicurus 341-270 ق م منظّر الأبيقوريّة الّتي تؤكّد أنّ الآلهة لا يمكن أن يؤذوا البشر وأنّ خشيتهم المرتبطة بالخوف من الموت والعقاب الأخرويّ لا معقولة، وتبيح للإنسان أن ينشد اللّذّات لا كلّها بل الطّبيعيّة والضّروريّة فقط، وتعتبر السّعادة غياب ألم الجسم وكدر الرّوح. لوكرتيوس أشهر ممثّليها عند اللاّتين.

فيثاغور: Pythagoras 582-500 ق م من أقدم المفكّرين اليونان، فيلسوف روحانيّ، يعدّ النّفس خالدة ومن طبيعة ربّانيّة، واضع مصطلح "الفلسفة" أي طلب الحكمة، ومهمّتها معرفة التّوافق الكونيّ وهو عنده ذو طبيعة عدديّة.

مدرسة الرّواق: Stoa، أسّسها زينون الكيتيونيّ 335-264 ق م من ممثّليها كليانتس* وخريسبّوس وأبكتيتس وسينيكا* ومرقس أورليوس*. تؤكّد أنّ العالم المادّي محلّ قوّة عقلانيّة تديره أي إله حلوليّ مفارق، وأنّ السّعادة في الاستقلال عن الظّروف الخارجيّة، وأنّ الحكيم يعيش في وفاق مع العقل أي مع الطّبيعة فيجد السّلام النّفسيّ ataraxia بنبذ الأهواء apathia وتحكّم العقل في الإرادة والحكم، والزّهد في الأشياء والنّاس.

الأكاديميّة: Academiaمدرسة أفلاطون سمّيت كذلك لقربها من بساتين أكاديموس.

إرسستراتوس: Erasistratusطبيب يونانيّ عاش في الإسكندريّة في القرن الثّالث ق م.

أرسطراخوس: Aristarchus304-250 ق م اشتغل طبيبا عند ملك سوريا السّلوقيّ ثمّ أسّس مدرسة تشريح بالإسكندريّة.

أبيقيوس: Apiciusتاجر رومانيّ ( القرن الأوّل م) ألّف كتابا شهيرا في الطّبخ أدّت به ولائمه إلى الإفلاس والانتحار.

4

اللّخدمونيّون/اللاّكونيّون: Lacedaemonii/Laconesالاسبرطيّون. ليكرغوس: Lycurgusمشرّع أسطوريّ من القرن 7 ق م. كتب سيرة حياته أفلوطرخس وقارنه بالرّومانيّ نوما بمبليوس، أمات نفسه ليمنع الاسبرطيّين من التّراجع في عهدهم.

القوانين البابيّة: قانون يدعى lex Papia Poppae في الزّواج والعزوبيّة سنّه أغسطس في 9 م.

سبتيموس سفيروس: امبراطور رومانيّ ( 193-211 م).

القانون اليوليّ: قانون الزّواج سنّه الامبراطور أغسطس في 18 ق م.

يخضّب/يراق: suffundere/effundere جناس مطلق.

5

مرقس إيمليوس: Marcus Aemilius90-13 ق م ساهم في نظام الحكم الثّلاثيّ الثّاني ثار على أكتافيوس وهُزم فاعتزل 36 م.

ألبُرنوس: Alburnusله جبل يحمل نفس الاسم.

تيبريوس Tiberius 14-37 ونيرونNero 54-68 وفسبسيانوس Uespasianus69-79 ودومتيانوس Domitianus 81-96 وهدريانوسHadrianus 117-138 وبيوسAntonius Pius 138-161 وفيروسUerus أو كومّودوس Commodus( مع مرقس أورليوس* 161-169): أباطرة رومان.

صحّة ألوهته: يقصد المسيح.

اعتدتم/ دأبتم: consuestis/ soliti estis سجع مع مجانسة صوتيّة بالسّين.

الجفاف الّذي ضرب جيش جرمانية: من المعجزات الّتي يتناقلها الكتّاب النّصارى.

6

لم يبق فرق بين السّيّدات والمومسات في اللّباس: لترتلّيانوس كتيّب عن لباس النّساء : de Uelis.

رومولوس: Romulus مؤسّس رومية الأسطوريّ بعد قتل أخيه ريموس وهما ابنا الإله مارس* وريّى سلفية كاهنة وستة

أغناتيوس ميتنيوس: Metennius ذكر ذلك بلينيوس وأكّد أنّه برّئ من جرم القتل eum Romulo caedis absolutum.

ليبر: Liber إله الخمر محرّر طاقات الإنسان المكبوتة كما يوحي به اسمه. يدعى أيضا باخوس*.

القناصل: Consules في عهد الجمهوريّة كان قنصلان يتولّيان لسنة واحدة السّلطة التّنفيذيّة وقيادة الجيوش.

بيسون وغابينوس: Piso/Gabinus كانا قنصلين سنة 58 ق م.

سرابيس: Serapis إله مصريّ يونانيّ، ظهر في عهد بطليموس الأوّل وبمساعدة الكاهن المصريّ مانيتون والفيلسوف ديمتريوس الفاليريّ وتيموتينوس عرّاف معبد أسرار إليوسيس، كمزيج بين أوزيريس إله العالم السّفليّ والخصوبة وأبيس العجل المقدّس، ثمّ صار كذلك إله الشّمس والشّفاء والخصوبة.

إيزيس: Isis إلهة مصريّة، زوجة أوزيريس وأمّ حورس، انتشرت عبادتها في العالم الهلّينيّ ثمّ الرّومانيّ.

هربقراطس: Arpocrates إله الصّمت وهو ابن إيزيس. ذو رأس الكلب: cynocephalo سيث إله العالم السّفليّ.

الكابتوليوم: Capitolium مجمع الآلهة في رومية.

باخوس: Bachus إله الخمر والانفلات، كديونيسوس عند اليونان. يسمّى كذلك ليبر.

7

السّعالى والأغوال: في النّصّ أفواه عرائس البحار وعماليق الككلوب Cyclopum et Sirenum ora.

سامتراقية: Samothracia جزيرة تقع على مصبّ نهر هيبر، في شمال بحر إيجة.

إليوسيس: Eleusis مدينة بأتّيكة، انتشرت فيها عبادة ديميتر/كيريس* وبرسيفونة/بروسربينة ( ديانة مسارّة).

إلاّ إن كان الكافرون أقلّ خشية: ربّما يقصد "إلاّ إن كانت طقوس مسارّة وثنيّة لا يخشى أتباعها قمعا".

لا آفة أسرع من الشّائعة: ورجيليوس الإنياذة 4: 174.

يكشف الزّمان كلّ الخفايا: من حِكم العرب الشّبيهة قول زهير: ومهما تكن عند امرئ من خليقة/ وإن خالها تخفى على النّاس تُعلم؛ وقول طرفة: ستبدي لك الأيّام ما كان خافيا/ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد.

8

أشباه الكلاب والوحوش والأغوال: في النّصّ Cynopaene aut Sciapodes.

9

ساترنوس/كرونوس: Saturnus أحد التّيتان* أبناء أورانوس*(السّماء) وجايه (الأرض). زوج قُبيلة*/ريّه وأب يوبتر*/زيوس ونبتون/بوسيدون وبلوتون/هادس ووستة*/هستية وكيريس*/ديميتر ويونون*/هيرة. ويماثل ببعل حمون القرطاجنّيّ، مع أنّ اسم كرونوس لا يظهر في عهد حنّبعل الشّهير؛ ولا تزال توجد في قرطاج/ صلامبو آثار وألواح نذور من مذبحه/ محرقته ( أو "توفت" كما يدعوه العهد العتيق، مثلا أشعيا 30: 33 وإرميا 7: 31، والكلمة من نفس الأصل الّذي أتت منه "أثفية" بالعربيّة).

أبينا: patris nostri أي أبي، وقد كان أبو ترتلّيان فعلا ضابطا في الجيش، فلعلّ المقصود بتيبريوس وال لإفريقية غير معروف لا الامبراطور. وهناك قراءة مختلفة: patriae nostrae تغيّر المضمون التّاريخيّ لشهادة ترتلّيانوس عن استمرار تقديم ضحايا بشريّة في إفريقية لبعل حمّون.

الجرم الطّقوسيّ sacrum facinus أو المقدّس لأنّ الوثنيّة مضادّة للفطرة ( تضادّ بلاغيّ: oxymoron). في اللاّتينيّة كما في اليونانيّة كلمتان للقداسة sacer/hieros للقوّة الماثلة في أناس وأشياء وأعمال وsanctus/hagios للطّهارة والتّنزّه.

ما عفّ ساترنوس عن بنيه أصلا: كان ساترنوس الّذي قتل أباه أورانوس* يلتهم بنيه عند ولادتهم مخافة أن يقتلوه. لكنّ زوجته أخفت آخر بنيه يوبتر*، ولمّا كبر سقاه شرابا فتقيّأهم وقامت حرب انتصر فيها يوبتر*.

مركوريوس/هرمس:Mercurius ابن يوبتر*، إله التّجّار واللّصوص، ومرسال الآلهة. هنا توتاتيس، انظر فليكس 6

الطّوريّة: Taurica حاليّا بلاد القرم حيث حُملت إيفيجينة بعد افتدائها بأيّل لتصير كاهنة ديانة*/أرتميس.

أينياس: Aeneas أب الرّومان الأسطوريّ، فرّ من طروادة، أقام بقرطاج حيث أحبّ علّيسة، ثمّ رحل إلى إيطالية، كتب عنه فرجيليوس ملحمته "الإنياذة".

قتل الأبناء عند ولادتهم: بالتّخلّي عنهم وهي عادة قديمة ( ترنتيوس: معذّب نفسه 5: 3 أو الخصيّ 4: 6)

كلّ ثمرة موجودة في بذرتها بالقوّة، يستخدم هيغل صورة شبيهة لتصوير جدل الواقع، أي احتوائه بذرة نفيه.

يوبتر/زيوس: Iuppiter كبير الآلهة الأولمبيّين، بعد انتصاره على التّيتان*. زوج يونون*، مغامراته العاطفيّة لا تعدّ.

هيرودوت: Herodotus 484-425 ق م أوّل المؤرّخين اليونان، زار مصر وبلدانا عديدة ووصفها.

علّمهم زنا المحارم يوبتر نفسه: تزوّج أخته يونون، وزنا بابنته بروسربينة/برسيفونة.

كاتلينا: Catilina 108-62 ق م دبّر مؤامرة لمّا انتصر عليه شيشرون في انتخابات القنصليّة 63 ق م، قُتل ببستوية.

بلّونة: Bellona إلهة الحرب، تطابق إنيو عند اليونان. أخت أو زوجة مارس* إله الحرب.

تحريم الدّم: لمّا بدأ تلاميذ المسيح يكرزون بين "الأمم" أي غير اليهود، رأوا للتّيسير إعفاءهم من الشّريعة الموسويّة وطلب "مجمع" القدس منهم فقط الامتناع عن "نجاسات الأصنام والزّنى والمخنوق والدّم" ( أعمال الرّسل 15: 20)، ثمّ تمّ التّخلّي لاحقا عن معظم التّحريمات خصوصا تحت تأثير رسائل بولس الرّسول مع أنّ سفر الأحبار ينصّ على تحريمه الأبديّ 3: 17 الّذي يعود إلى كونه مقرّ النّفس أو النّفسَ أحبار 17: 11 و14.

أكتسياس: Ctesias ولد في 416 ق م، مؤرّخ يونانيّ اشتغل طبيبا عند داريوس 2 وكتب عن تاريخ فارس والهند.

السّكيث: Scythae شعب من أصل إيرانيّ هاجر إلى شرق أوروبّة، حيث أقاموا دولة دحرت داريوس* في 513 ق م.

أوديب: Oedipus قتل أباه وتزوّج أمّه على غير علم، تنفيذا لحكم الأقدار.

يظلّون أطفالا وهم شيوخ: يؤثرون البتوليّة الّتي فضّلها القدّيس بولس: "حسنٌ للرّجل ألاّ يمسّ امرأة. أقول لغير المتزوّجين أن يبقوا على هذه الحال كما أنا. فإن لم يتعفّفوا فليتزوّجوا فإنّ التّزوّج خير من التّحرّق." الرّسالة الأولى إلى أهل كورنتوس، 7 وورد في إنجيل متّى 10 ما يشبه ذلك. اعتبر النّصارى أمر الله لآدم ثمّ لنوح بالزّواج والتّكاثر ( سفر التّكوين 2: 18 و1: 9) "فرض كفاية". لكنّ الرّهبنة أتت بعد قرن تقريبا من كتاب ترتلّيانوس. وقد نهى عنها الإسلام: "ورهبانيّة ابتدعوها ما كتبناها عليهم" الحديد 27، "لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ لكم" المائدة 87، إذ يكون الإحسان أي زيادة العبادة عن الفرض من نفس جنسها؛ ويقابلها فيه الجهاد.

10

الآلهة الوثنيّة بشر في الأصل: سبق ترتلّيانوسَ إلى هذه الفكرة قبل ستّة قرون الفيلسوف السّفسطائيّ بروديكوس القيوسيّ تلميذ بروتاغوراس فقد اعتبر الميثولوجيا سِيَر أشخاص مجمّلة واعتبر مثلا أعمال هرقل الاثني عشر رمزا لأعمالنا خلال أشهر السّنة، وكذلك الفيلسوف إفهيمروس ( بين القرنين 3 و2 ق م). واستغلّها الكتّاب المسيحيّون، كمعاصره مينقيوس فيلكس، في مهاجمة الوثنيّة. وذهب إلى مثل ذلك بعض الإسلاميّين كابن وحشيّة في عرض أسطورة تمّوز وربطها بقصّة القدّيس جرجيوس (الفلاحة النّبطيّة، تكوّن البخار والرّياح). في العصر الحديث نشأت نظريّات تشبهها كنظريّة فيورباخ الّتي تعطيها بعدا فلسفيّا إذ تعتبر الألوهيّة إسقاطا وهميّا للإمكانات الكامنة في الإنسانيّة ولرغبة الإنسان في الانتصار على الطّبيعة فتصوّر الله ينفي كلّ التّحديدات والقيود الّتي يواجهها فكلّما كانت حياته أخْوى كانت صورة الإله أكثر امتلاء؛ ونجد جذورها في كتابات شباب هيغل حيث يؤكّد أنّ فكرة الإنسان عن الله مرآة تعكس فكرته عن نفسه، وامتدادها عند ماركس الّذي اعتبر الدّين تعبيرا عن بؤس الواقع واحتجاجا عليه، "زفرة الخليقة المعذّبة وروح عالم بلا روح وأفيون الشّعب" وتحقيقا وهميّا لتطلّعات الإنسان، وتبريرا لواقع المجتمع. وكذلك بعض النّظريّات الأنثروبولوجيّة ( مثلا عدّ تايلور الأرواح الّتي يعمر بها البدائيّ الكون وهي أصل الآلهة في الأديان الأكثر تطوّرا تشخيصا لقوى الطّبيعة) والنّفسيّة: الإله إسقاط لصورة الأب (فرويد)، أو من الصّور النّمطيّة في اللاّوعي الجماعيّ (يونغ).

ديودوروس الصّقلّيّ: Diodorus 90-21 ق م مؤرّخ يونانيّ كتب تاريخا ضخما في 40 جزءا بقي منه القليل

ثالّوس: Thallus مؤرّخ من القرن الأوّل م، ربّما ولد بالسّامرة، يستشهد به مثلا يوليوس الإفريقيّ ويوسبيوس الّذي يقول إنّه ذكر احتجاب الشّمس بعد صلب المسيح؛ ذكره المنافحون المسيحيّون تيوفيلوس ولكتنتيوس ومينقيوس فيلكس.

كرنليوس نيبوس: Cornelius Nepos 100-25 ق م مؤرّخ رومانيّ، كتب " رجال مشاهير"...

أتّيكة: منطقة يونانيّة تضمّ أثينة، كانت مركزا لبعض ديانات المسارّة.

يانوس: Ianus إله العتبات وافتتاح الأعمال، ذو وجهين ، اشتقّ من اسمه شهر يناير، أي كانون الثّاني.

السّاليّون: Salii كهنة الإله مارس.

أُنترية: Oenotria اسم منطقة بإيطالية أقام فيها اليونان مستعمرات ويعني بلاد الخمر، وأسماء بعض خمور صقلّيّة اليوم توحي بأصولها اليونانيّة ( غريكو، غريكتّو، لِمنيو..) ويعني اسم إيطالية حسب وارّون ( في كتابيه "في الزّراعة" 2-1 و2-5، و"في اللّغة اللاّتينيّة") وبيسون "بلاد الثّيران" إشارة إلى أصول الرّومان الرّعويّة.

ربوة ومدينة ساترنية: Saturnia حيث يقع الكابيتول. ذكر ذلك وارّون مثلا.

ساترنوس إله للخزينة: ابتدع الرّومان كذلك للنّقود النّحاسيّة أسكولانوس، ثمّ للفضّيّة أرجنتينوس!

السّماء والأرض لكلّنا أب وأمّ: السّماء مذكّرة في اللاّتينيّة. وفي الميثولوجيا اليونانيّة انبثقت جاية/الأرض من السّديم الأصليّ وأوجدت أورانوس/السّماء فتزوّجا وأنجبا الكائنات الأولى: التّيتان والككلوب والهيكاتنشير. وتشخَّص السّماء بإله ذكر والأرض بإلهة أنثى في الأديان القديمة لأنّ السّماء تعلو الأرض وتخصبها بالمطر، لكن قد تشخَّص السّماء بإلهة أنثى كنوت أمّ إيزيس في الدّيانة المصريّة، والأرض بإله ذكر. وورد نعت الأرض بأمّ الجميع مثلا في سفر يشوع بن سيراخ 40: 1 أو في "إرادة الحياة" للشّابّي 12-17. واسم آدم مشتقّ من الأدمة أي الأرض.

يكرّسون آلهة من أقرّوا قبل أيّام بأنّهم فناة: يقصد تأليه الأباطرة بعد الموت apotheosis بدءا بأغسطس*. وكذلك أُلّه يوليوس قيصر بقرار من مجلس الشّيوخ بعد اغتياله. وقد ألّه كذلك رومولوس المؤسّس الأسطوريّ لرومية تحت اسم "كويرينوس". وتأليه الملوك عادة قديمة نجدها عند قدماء المصريّين والسّومريّين مثلا، بل حتّى فيليب المقدونيّ ثمّ الإسكندر، ثمّ البطالسة والسّلوقيّين.

11

كيريس/ديميتر: Ceres أخت يوبتر*، إلهة القمح والحصاد، مغذّية البشر. قصّة خطف ابنتها مشهورة.

مينرفة/أثينة: Minerua إلهة المعرفة والحكمة، بنت يوبتر*/زيوس.

لوكلّوس: Lucullus 110-56 ق م عسكريّ ساهم في الحروب ضدّ مثرداتس ملك الجسر* في عهدي سولاّ وبمبيوس.

بلاد الجسر: Pontus تقع في آسية الصّغرى ( تركيا حاليّا). خلع الرّومان ملكها مثرداتس الرّابع.

التّرتار: Tartar أحد أنهار العالم السّفليّ.

سقراط: Socrates 469-399 ق م أب الفلسفة، عرّضته حرّيّة تفكيره إلى حكم الأثينيّين بإعدامه.

أرستيدس: Aristides سياسيّ وعسكريّ أثينيّ من القرن الخامس ق م، لقّب بالعادل.

ثيمستوكلس: 524-460 ق م سياسيّ وعسكريّ أثينيّ هزم الفرس في معركة سالاميس البحريّة 480 ق م.

الإسكندر: Alexander المقدونيّ 356-323 ق م مؤسّس الامبراطوريّة الهلينّيّة.

كاتون الأكبر 234-149 ق م من رجال الدّولة الرّومانيّة والكتّاب اللاّتين الأوائل، حسيب ( مكلّف بإحصاء السّكّان والرّقابة الماليّة والأخلاقيّة) عُرف بترديد قولته "لا بدّ من سحق قرطاج"Delenda est Carthago.

بولقراط: Polycrates ملك جزيرة ساموس* في القرن السّادس ق م وباني قوّة أسطولها.

كرويسوس: Croesus آخر ملوك ليدية ( 560-546 ق م) واشتهر بغناه. أسره قورش* ملك الفرس.

ديمسثينس: Demosthenes 384-322 ق م سياسيّ وخطيب أثينيّ اشتهر بخطبه ضدّ سياسة فيليب والإسكندر* التّوسّعيّة.

شبيون Scipio أو سكبيون الإفريقيّ عسكريّ رومانيّ انتصر على حنّبعل في الحرب البونيقيّة الثّانية 219-202 ق م

بُمبيوس: Pompeius 106-48 ق م زعيم رومانيّ شارك في الحرب الأهليّة مع سولاّ ضدّ الحزب الشّعبيّ، أنهى ثورة سبرتاكوس وبعد الحكم الثّلاثيّ الأوّل بموت كراسّوس* انفجرت حرب بينه وبين يوليوس قيصر، قُتل فيها.

سولاّ: الملقّب بالسّعيد 138-78 ق م عسكريّ وسياسيّ رومانيّ انتصر في عدّة معارك ( ضدّ يوغرطة، ومثرداتس، وفي الحرب الأهليّة..) عيّن قنصلا في 88 ودكتاتورا في 81 واستقال في 79

كراسّوس: Crassus ( مرقس ليكينوس) 115-53 ق م ساعدته ثروته على ارتقاء مناصب سياسيّة. أقام مع بمبيوس ويوليوس قيصر نظام حكم ثلاثيّا انهار بموته الّذي فجّر الصّراع بينهما.

تولّيوس: Tullius هو شيشرون.

العالم السّفليّ: inferiعالم الأموات، كائن تحت الأرض حسب الميثولوجيا اليونانيّة الرّومانيّة.

12

تمزّقون جنوب النّصارى بأظافركم: أدوات تعذيب حديديّة.

هيرودوت: Herodotus 484-425 ق م أوّل المؤرّخين اليونان، زار مصر وبلدانا عديدة ووصفها.

قُبيلة: Cybela إلهة فريجيّة مرتبطة بالإله أتّيس، نُقلت إلى رومية أثناء الحرب البونيقيّة الثّانية ( 205 ق م)، اعتُبرت زوجة ساترنوس أمّ يوبتر ونبتون وبلوتون وكيريس ووستة ويونون.

كيلستيس: Caelestisتانيت الإلهة القرطاجنّيّة، غير عشتار الفينيقيّة رغم الشّبه، وعدّها الرّومان مرادفا ليونون.

أورانوس: Uranusربّ السّماء، قتله ابنه ساترنوس* فانبثقت من دمه جنّيّات النّقمة وعرائس المُرّان.

سينيكا: Seneca( 1-65 م) فيلسوف من المدرسة الرّواقيّة، معلّم نيرون ثمّ مستشاره. اضطرّ للانتحار بأمره.

أصنامكم الهامدة كأصحابها الأموات: "أموات غير أحياء ولا يشعرون أيّان يُبعثون" ( سورة النّحل).

13

اللاّرات: Lares آلهة البيوت، كان اليونان والرّومان يواظبون على عبادتها.

لارنتينة: Larentinaزوجة الرّاعي الّذي وجد رومولوس* وريموس صغيرين، أرضعتهما. وكانت بغيّا في الأصل.

فرينة: Phryne مومس عاشت في أثينة، اتّخذت مثالا لرسم ولنحت أفروديت. غيّرت حكم القضاة بتعرية صدرها.

ديانة/أرتميس: Dianaإلهة القمر والصّيد، بنت زيوس/يوبتر* وأخت أبولّون*.

مراقب: quaestor وظيفته الأساسيّة الرّقابة الماليّة.

سمعان السّاحر: Simo(n) Magus غنوصيّ زار روميّة في عهد كلوديوس 41-54 م فألّهه أتباعه وألّهته فرقة في دينيّة في القرن الثّاني كتجسيد لزيوس. وقد ورد ذكره في أعمال الرّسل.

تأليه أحد غلمان القصر الامبراطوريّ: هو أنتينووس 112-132 م غلام هدريانوس، الّذي ألّهه بعد غرقه في النّيل لأسباب غامضة، وسمّي باسمه كوكب، وكذلك زهرة، وبنيت له معابد ومدينة بمصر هي أنتينوبوليس.

14

هرقل/هيرقليس: Hercules بطل أسطوريّ، ابن زيوس/ يوبتر والإنسيّة ألكمينة، استحقّ بأعماله الاثني عشر أن يصير إلها، يعني اسمه "مجد هيرة".

الآخيّون: Achiuiِِ اليونان الأوائل، الّذين شنّوا حرب طروادة لاستعادة هيلينة.

فينوس كليمة بسهم ديوميدس: ففرّت إلى الأولمب كما ورد في الإلياذة، النّشيد الخامس 297-430 وكانت أثينة قد أخبرته بأنّ "لا قوّة لها وما هي من طراز الإلهات حاميات المحاربين كأثينة وإنيو فاتحة المدائن".

مارس كاد يهلك من حبسه 13 شهرا: حبسه العملاقان إفيلتس وأوطوس ابنا ألويوس بطلب من أفروديت لأنّه قتل عشيقها أدونيس، وحرّره خلسة هرمس بعدما أخبرته أريبة زوجة أبيهما. الإلياذة 5: 385-391

يوبتر ينجو من الحبس: بفضل الوحش إيجيون بعد تآمر يونون ومينرفة ونبتون عليه الإلياذة 1: 398-401

يوبتر يتذلّل بنحو مخز لأخته وزوجته يونون ويذكر أنّه لم يحبّ مثلها عشيقاته السّابقات: دية، دناية، أوروبة، ألكمينة، سيميلة، ديميتر، ليتو... إلياذة 14: 312-327 ( أو: وهي تذكّره بعشيقاته الّتي لم يمض على مغامراته معهنّ زمن طويل: كتيتيس أم ّ أخيلس الإلياذة 1: 517-611).

سربيدون: Sarpedoابن زيوس ولاودامية، قائد ليقيّ حليف للطّرواديّين، قتله بتروكل فحزن عليه زيوس إلياذة 16

أميرهم: الأرجح أنّه يقصد أمير الشّعراء ( هوميروس) لا الآلهة ( يوبتر).

أبولّون: ِApollo ابن يوبتر*/زيوس وأخ ديانة*، إله الفنون والنّور والحقيقة، له معبد في دلفي فيه العرّافة بيثية.

أدمِتوس: Admetusابن فيرِس ملك فيرية بثسّالية. ساعده أبولّون على نيل يد ألكستيس أجمل بنات الملك بلياس.

نبتون/بوسيدون: Neptunusإله البحار أخ يوبتر كبير الآلهة الّذي عاقبه مع أبولّون لأنّهما احتالا لتقييده بأمر من هيرة.

لاوميدون: Laomedoملك طرواديّ أسطوريّ، أب بريام. رفض إعطاء أجر أبولّون وبوسيدون بعدما شادا له طروادة.

بنداروس: Pindarus518/522-438 ق م تقريبا، شاعر يونانيّ مشهور.

أسكلابيوس: Aesculapiusإله الطّبّ، ابن أبولّون، صعقه جدّه يوبتر بعدما أعاد ميّتا إلى الحياة مخافة أن يعلّم النّاس الطّبّ.

ديوجين الكلبيّ: Diogenes413-323 ق م فيلسوف يونانيّ يقوم مذهبه على رفض الأعراف وإرادة العودة إلى الطّبيعة، واحتقار المظاهر والشّهرة وتمجيد الإرادة الفرديّة المتحدّية. كان يعيش في برميل، وردّ على الإسكندر الّذي مدّ له يده ليصافحه: تنحّ عن شمسي، وكان يبحث حاملا سراجا في وضح النّهار، كأنّه حكيم المعرّة إذ ينشد: أفي الدّنيا لحاها الله حقّ فيُطلب في حنادسها بسُرج. نعته أفلاطون ب "سقراط هاذ".

وارّون: 116-27 ق م كاتب مثَله حياة بسيطة وفاضلة كالرّومان الأوائل؛ وهو أقرب إلى الرّواقيّة منه إلى المذهب الكلبيّ. ضاع كتابه عن آلهة الرّومان الّذي استشهد به أغسطينوس في مواضع كثيرة من "مدينة الله".

ثلاثمائة يوبتر: trecentos Ioves, sive Iupitres dicendos يكتب Iovesثمّ يستدرك متسائلا إن كان الأصحّ أن يقول Iupitres لأنّ Iupiter في حالة الرّفع- وهو في الأصل منادى وتعني piter الأب- يصير Iovis في حالة الجرّ بالإضافة فاحتار في الصّيغة الصّحيحة في حالة الجمع المنصوب للسّخرية طبعا.

15

لنتولوس وهستيليوس: Lentulus, Hostilius من كتّاب المشاهد الهزليّة الحركيّة تلفت كتاباتهم.

أنوبيس: Anubis إله العالم السّفليّ مصريّ الأصل يحمل رأس ابن آوى أو كلب. تمّت مماهاته بهرمس/مركوريوس.

إلهة القمر: لونة/سيلينة وكنّا أميل إلى ديانة لو لم تُذكر بعدها مباشرة. والقمر أنثويّ عند اليونان والرّومان.

إله الشّمس: صول/هليوس، ركب ابنه فايتون مركبته يوما فلم يتمكّن من قيادتها في السّماء فصعقه زيوس. أبولّون أيضا إله شمسيّ. في بلاد العرب عُبدت الشّمس كإله ذكريّ في الشّمال أو أنثويّ غالبا في الجنوب.

راع يحكم بين يونون وفينوس ومينرفة: هو فارس ابن بريام، كان حكمه لفائدة فينوس سبب حرب طروادة.

التّخنّث: كان الممثّلون يعدّون متخنّثين عند الرّومان ( انظر مثلا في مرافعة أبوليوس هجاء روفينوس).

أتّيس: Attis إله فريجيّ أحبّته قُبيلة حسب الأسطورة. خصى نفسه. انتشرت عبادته في الامبراطوريّة الرّومانيّة.

بسّيننتة: Pessinuns مدينة بفريجية ( وسط بلاد الأناضول) وهي بلاد الملك الأسطوريّ ميداس الّذي نبتت له أذنا حمار.

أخ يوبتر: لعلّ المقصود بلوتون/هادس إله العالم السّفليّ ولا نعلم له مطرقة. أمّا نبتون/بوسيدون فله مذراة.

مفاسد الكهنة الوثنيّين: قد يبدو تصوير ترتلّيانوس مبالغا فيه، لكنّا نقرأ في رسالة كتبها في 362 الامبراطور يوليانوس "المرتدّ" الّذي أراد إحياء الوثنيّة بعد انتصار النّصرانيّة إلى الكهنة ينهاهم فيها عن ممارسات شائنة كالسّكر والتّجارة في المعابد والائتساء بكهنة النّصارى، ممّا يوحي بأنّ كلام ترتلّيانوس غير مفترى.

16

تاكيتوس: Tacitus 55-120 م مؤرّخ رومانيّ صديق لبلينيوس وترايانوس. ألّف "الحوليّات"، "حياة أغريكولا"...

ألّه اليهود رأس حمار: وربّما اتّهمهم بذلك المصريّون الّذين يتمثّلون الشّيطان برأس حمار أغبش.

وإن كان أكبر مهذار بين الكذّابين: خلافا لاسمه الّذي يعني السّكّيت لفظا، مثل ابن السّكّيت عندنا.

إيبونة: Eponaإلهة الخيل، وأصلها من بلاد الغال.

فاروس: Pharos جزيرة أمام الإسكندريّة غمرها البحر واكتُشفت مؤخّرا (1995) بعض آثارها المشهورة في القديم.

يوم الشّمس: الأحد، يوم الصّلاة، وكان مخصّصا في الزّرادشتيّة وديانة مثرا لعبادة الشّمس، وربّما اختير هذا اليوم لمماهاة المسيح بالشّمس في بدايات انتشار النّصرانيّة خارج فلسطين. يوم ساترنوس: السّبت. وأطلقت على أيّام الأسبوع أسماء الكواكب السّبعة (الشّمس، القمر، المرّيخ، عطارد، المشتري، الزّهرة، زحل) الّتي ألّهها البابليّون، ولا تزال بعض اللّغات الأوروبّيّة تطلق على الأيّام والأشهر أسماء آلهة وثنيّة.

إلهة النّصر: هي فكتورية. تمثّل عادة بأجنحة على ظهرها أو قدميها.

إله النّصارى من جنس الحمار: يوجد بمتحف روما رسم تجديفيّ مماثل.

17

كوسموس: Kosmos في الأصل تعني النّظام.

النّفس المجبولة على فطرة التّوحيد ( أو المسيحيّة) animae naturaliter christianae لذا فالوثنيّة ابتعاد عن الفطرة بل جرم :"إنّ الشّرك لظلم عظيم" ( 31: 13). ويذكّر هذا بالحديث الشّريف: "يولد الولد على دين الفطرة فأبواه ينصّرانه أو يهوّدانه أو يمجّسانه." ومن كتب ترتلّيانوس: "شهادة النّفس". في "الاعترافات" كذلك يدعونا أغسطينوس إلى البحث عن الله بداخلنا. كذلك جعل الغزاليّ معرفة النّفس مقدّمة ووسيلة لمعرفة الله.

احتجاز النّفس في سجن البدن: فهي من العالم العلويّ وقد تستفيق فتذكره، أفكار أفلاطونيّة ( انظر "فيدون") وفيثاغوريّة نجد صدى منها في عينيّة ابن سينا: هبطت إليك من المحلّ الأرفع ورقاء ذات تعزّز وتمنّع.

18

تبرير بعث الرّسل: ما دام الإنسان قادرا بعقله على معرفة الله فلم الرّسل؟ يستبق ترتلّيانوس هذا الاعتراض الشّبيه بما قال ابن الرّاونديّ في الزّمرّذة ( كما ورد في المجالس المؤيّديّة): "إنّ العقل أعظم نعم الله على خلقه وهو الّذي يعرف به الرّبّ ونعمه فإن كان الرّسول يأتي مؤكّدا لما فيه من التّحسين والتّقبيح والإيجاب والحظر، فساقط عنّا النّظر في حجّته وإجابة دعوته إذ غنينا بما في العقل عنه، والإرسال على هذا الوجه خطأ وإن كان بخلاف ما في العقل من التّحسين والتّقبيح والإطلاق والحظر فحينئذ يسقط عنّا الإقرار بنبوّته".

برومثيوس: أحد التّيتان، سرق النّار رمز المعرفة وأعطاها للبشر فعاقبه زيوس بربطه في جبل القوقاز حيث ظلّ نسر من رأسه حتّى حرّره هرقل. يستخدمه أبو القاسم الشّابّي في إحدى قصائده كرمز لروح التّحدّي.

البطالسة: سلالة مقدونيّة حكمت مصر بعدما غزاها الإسكندر حتّى ضمّها الرّومان 323-30 ق م.

بطليموس فيلادلفوس: Ptolemaeus Philadelphus أي "محبّ أخته" لأنّه تزوّج أخته لأسباب سياسيّة واتّباعا للتّقاليد الفرعونيّة 308-246 ق م ثاني البطالسة، حكم بين 285 و246، عهده ذروة الحضارة الهلّينيّة ( الموسيوم، توسعة مكتبة الإسكندريّة الّتي أنشأها أبوه). عدّه بعض المسيحيّين أوّل الرّسل إلى الأمم لقيامه بترجمة التّوراة إلى اليونانيّة.

بيسستراتوس: Pisistratus حاكم أثينيّ في القرن السّادس ق م، شجّع الفنون والآداب واعتبر عهده العصر الذّهبيّ لأثينة.

ديمتروس الفاليريّ: Demetrius Phalereus 350 ق م- سياسيّ وفيلسوف أثينيّ والي أثينة من قبل المقدونيّين، فرّ بعد إعادة الدّيمقراطيّة لها 307 م، واستقرّ في بلاط بطليموس.

استنسخ اثنان وسبعون ترجمانا أسفار اليهود: هي التّرجمة السّبعينيّة Septuagintالّتي اعتمدها الكتّاب المسيحيّون وضمّن منها الإنجيليّون ( مثلا قينان الّذي بين شالح وأرفكشاد الّذي ورد في لوقا 3: 36 في نسب المسيح، ولم يُذكر في التّوراة السّامريّة ولا المسورت). وذلك حسب ما جاء في "رسالة أرستياس" المنحولة الّتي تؤكّد إلهاميّتها. فقد لبثوا 72 يوما كلّ بمعزل عن الآخر ثمّ قارنوا ترجماتهم فإذا هي واحدة. وللعدد 70 ( أو 72= 6×12 على أساس الأسباط الاثني عشر كما للعدد 12 نفسه) دلالة خاصّة في الكتاب المقدّس: 70 رجلا مع موسى ( خر 24: 1 وعدد 11: 16 وجاء ذكرهم في القرآن 7: 155) و70 من شيوخ إسرائيل في نبوءة حزقيال 8: 11 والرّعاة ال70 الّذين حكموا إسرائيل في سفر أخنوخ المنحول ومترجمو التّوراة ال70 أو 72 والتّلاميذ الّذين أرسلهم يسوع إلى مدن فلسطين لوقا 10: 1 الخ

الله خصّ بنعمة النّبوءة بني إسرائيل: لكنّ كتب اليهود نفسها تحدّثت، قبل القرآن، عن أنبياء من أمم أخرى.

مينيدموس الأرتريّ: 339-265 ق م تقريبا، فيلسوف يونانيّ ولد بجزيرة أرترية، مؤسّس المدرسة الأرتيريّة.

سرابيوم: Serapeum معبد قريب من السّقّارة لعبادة سرابيس، ظلّ قائما حتّى هدمه البطريرك ثيوفيلوس في 391 م.

في إطار حرّيّتهم مقابل الجزية: في النّصّ uectigalis libertas. ظلّ اليهود فعلا، في إطار الهلّينيّة ثمّ في إطار الامبراطوريّة الرّومانيّة يستخدمون السّبعينيّة، قبل أن ينكفئوا إلى النّسخ العبريّة بسبب النّصرانيّة.


Translated by Amar Jelassii, 2003

This page has been online since 8th August 2004.


Return to the Tertullian Project / About these pages